تتخذ الحرب الجارية بين إسرائيل وإيران طابعًا مختلفًا عن الحروب التقليدية؛ فهي ليست فقط تبادلًا للضربات الجوية عبر جبهات معلنة أو ساحات مواجهات مباشرة، بل تتضمن أيضًا حربًا خفية تخوضها أجهزة الاستخبارات على أرض الخصم، بات المشهد الأمني الإيراني مثيرًا للدهشة والتساؤل، مع تصاعد الأنباء عن اغتيالات ممنهجة طالت قيادات عسكرية بارزة داخل إيران نفسها.
بدا أن إسرائيل، عبر جهاز الموساد، نجحت في التغلغل داخل الأجهزة الأمنية الإيرانية بدرجة مثيرة للقلق. استهدفت العمليات الاستخباراتية الإسرائيلية ضباطًا رفيعي المستوى في الحرس الثوري، ومهندسين في البرنامج الصاروخي والطائرات المسيّرة، بل وضباطًا في استخبارات فيلق القدس. بعض العمليات جرت في قلب طهران، وأخرى في أصفهان وشيراز وقم. ما يثير الانتباه ليس فقط وقوع الاغتيالات، بل دقة التوقيت، وطبيعة المعلومات التي يمتلكها الفاعلون، مما يشير إلى وجود "أعين داخلية" لا يمكن تجاهلها.
إن أعمال الجاَسُوسِيَّة تقوم على الاختراق الذكي، وفي الحروب لا يقُتصرُ الأمرُ على حسنِ الإعداد العَسْكرَي فحسب، فمهما بلغت قوتك العَسْكرَيَّة التي قد لا تضاهيها قو ة في العالم، فما لم يكن لديك مناعة من الاختراق أو على الأقلِ تقليله إلى حده الأدنى وحماية مفاصلك الحساسة منه؛ فإن هذَهِ القوى سوف تسُلبَ منك أو تشاركُ ك بها دو ل أخرى .
يقول المفكر العسكري الصيني القديم صن زو : إن النصر الحقيقي هو المعرفة المسبقة للعدو.. هذَهِ المعرفة المسبقة لا يمْكِن الحصول عليها عن طريق استحضار الأرواح، أو استجداء الآلهة، أو بناء على سنوات الخبرة والتوقعات ، أو من الحسابات الفلكية، أو النجوم .. تحركات ونوايا العدو ي يمْكِن معرفتها فقط من خلال رجال آخرين؛ وهنا تبرز الحاجة للجواسيس". لم تهمل الصين جانب التجنيِد الاستخِبار ي واستخدام الجواسيس في الحروب، وفي كتابه " فن الحرب " خصص زو فصلاً كاملاً بعنوان : توظيف الجواسيس .
في مصر القديمة أيضا ازدهر التَّجْنيِد الاِسْتخِباَرِ ي بِشَكل كبير ، فقد نسبت بعض المصادر التاريخية وجود ما يعرف بمجلس الجواسيس والذي كَانَ بمثابة الهيكل التنظيمي أو جهاز الاستخبارات في عصر الأسرات الفرعونية القديمة والمتوسطة في مصر , كما كان لنشاط التجسس دو ر كبير بجانب الدور العَسْكرَي ؛ فقد كَانَ للجواسيس أدوا ر رَئيِسِيَّة في الذهاب إلى القرى التي تشتهر بتجارة العبيد، لمراقبة أي تمرد من قبِل التجار ومن ينوب عنهم .كما كَانَ لمجلس الجواسيس هذا العديد من الجواسيس الأجانب، الذين كَانت مهامهم تنحصر في الوجود في بلاد منافسة – وإن لم تكن عدوًا صريحاً- لمصر مثل اليونان الإغريقية في ذلك الوقت.
كيف تمكنت إسرائيل من التوغل إلى هذا الحد داخل إيران؟ هل هناك اختراق على مستوى النسيج الإداري والأمني؟ أم هل ثمة تعاون من عناصر داخلية ناقمة أو مستفيدة أو مُجندة؟
تشير التقارير الغربية والإسرائيلية إلى عدة وسائل، من بينها: تجنيد عناصر من الداخل، خاصة من الأقليات العرقية والدينية مثل البلوش والأكراد. واستخدام شركات وهمية وواجهات اقتصادية للتغطية على تحركات العملاء. واختراق إلكتروني واسع ساعد في تعطيل أجهزة الحماية والتجسس على الاجتماعات العسكرية.
وفي كل مرة يقتل فيها قائد إيراني أو يتم تفجير منشأة نووية أو أمنية، يتجدد الجدل داخل إيران: أين كانت العيون؟ ومن فتح الأبواب؟ وهل لا يزال هناك المزيد من "الخلايا النائمة" في صلب النظام نفسه؟
السؤال لا يتوقف عند حدود إيران، بل يتعداه إلى الفضاء العربي برمّته. فمنذ تأسيس دولة إسرائيل، شكلت الجاسوسية أحد أعمدتها الأساسية في التعامل مع محيطها العربي، وتحوّل جهاز الموساد إلى واحد من أكثر أجهزة الاستخبارات تطورًا وقدرة على تنفيذ العمليات النوعية.
اختراق الجسد العربي، سواء في لبنان، أو سوريا، أو العراق، أو السودان، وحتى بعض دول الخليج، ليس حديثًا. لكن ما يلفت الانتباه في اللحظة الراهنة هو أن الاختراق لم يعد يُمارس عبر تجنيد تقليدي فقط، بل من خلال استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي، واختراق الاتصالات، وتجنيد شخصيات إعلامية أو سياسية أو اقتصادية تعمل تحت غطاءات معقدة.
في لبنان مثلًا، تم اكتشاف عملاء داخل مؤسسات حساسة رغم الوضع الأمني المشدد، وفي العراق قُتل قادة من "الحشد الشعبي" بعمليات يُعتقد أنها اعتمدت على معلومات استخباراتية دقيقة. أما في سوريا، فحدث ولا حرج، إذ صارت الطائرات الإسرائيلية تضرب العمق السوري بثقة كبيرة، ما يدل على أن معلومات دقيقة تصل إلى قادة العمليات الجوية.
ما بين الطائرات المسيّرة، وبرامج التجسس الإلكتروني مثل "بيغاسوس"، وفرق الاغتيال المدربة، باتت الحرب الإسرائيلية الإيرانية تمثّل نموذجًا للحروب المستقبلية التي تُخاض بصمت، ويقودها ضباط في الظل لا تعرفهم وسائل الإعلام. لقد غيّرت الحرب بين إيران وإسرائيل مفهوم المواجهة. لم تعد الجبهات تُقاس فقط بما يجري على الحدود، بل بما يُحاك في دهاليز الظل.
وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت اختراق الجغرافيا الإيرانية، فإن التحدي القادم قد يكون اختراق الذاكرة السياسية والثقافية للشعوب، وهو ما يستوجب يقظة استخباراتية وإعلامية وسياسية في الداخلين الإيراني والعربي على السواء.
الوطن