على خطى النار بين لبنان وسوريا، يعود أحد أعرق الملفات وأكثرها إشكالاً إلى واجهة السياسة والإعلام: ترسيم الحدود البرية. هذا الملف، الذي تجذر في ثنايا اتفاقية "سايكس بيكو" وورث غموض خرائط الانتداب الفرنسي "السريّة"، يتجاوز بكثير النزاعات المحلية على ملكيات فردية ليمسّ صميم السيادة والأمن القومي للبلدين. اليوم، وفي خضمّ التحولات الجيوسياسية العاصفة التي تجتاح المنطقة، لم يعد الترسيم مجرد مسألة تقنية، بل تحول إلى ورقة مساومة إقليمية ودولية.
أسس قانونية وجذور تاريخية عميقة
يؤكد رئيس الوفد العسكري اللبناني المفاوض العميد المتقاعد بسام ياسين لـ"وردنا"، أن الإطار القانوني للملف "يتعلق بالحدود الدولية المعترف بها والوثائق التاريخية الثابتة، وأبرزها الخرائط التي أسست عليها دولة الانتداب الفرنسي كيانيْ الدولتين. وتؤكد لبنان على تمسكها بهذه الخرائط الرسمية التي تملك الدلائل على صحتها".
لكن الجذور، كما يشرحها المتابع لقضايا الحدود البحرية والبريّة للبنان السفير السابق بسام نعماني لـ"وردنا"، أعمق من ذلك. فبعد إنشاء لبنان الكبير عام 1920، عملت سلطات الانتداب الفرنسي لمدة 13 عاماً (1920-1933) على رسم وتفصيل الحدود، لكنها أبقت معظم الخرائط "سرية" وممنوعة من التداول، في سياسة وصفها نعماني بـ"التعمد في إبقاء الأمور غير واضحة". وقد ورثت دولتا الاستقلال هذا الإرث المعقد، لتبدأ المشاكل التي يمكن تقسيمها إلى أربع مقاربات متداخلة، وفقاً لنعماني: محلية (نزاعات ملكية)، وأمنية (ضبط التهريب والعبور)، وإستراتيجية (كنزاع مزارع شبعا)، ودولية (تلبية متطلبات المجتمع الدولي كالقرار 1701).
محاولات فاشلة وإرادة سياسية غائبة
على الرغم من هذه التعقيدات، شهد الملف لحظات من الجدية السياسية. يكشف مصدر نيابي مطلع لـ"وردنا"، كان مسؤولاً مباشراً عن الملف في الحكومة، عن تفاصيل جولة مفاوضات واعدة عام 2010. ويقول المصدر: "عقدت عدة جلسات عمل مع وليد المعلم وبثينة شعبان، وتم التوصل إلى تفاهم يقضي بتشكيل لجنة وطنية لبنانية مشتركة" جمعت ممثلين عن أهم الوزارات والأجهزة الأمنية لمراجعة كل الوثائق.
واجهت المبادرة عقبة فورية تتمثل في حساسية منطقة مزارع شبعا، مما دفع المصدر النيابي إلى اقتراح "البدء من الحدود الشمالية". وقد لقي الاقتراح قبولاً سورياً وتم دمجه في أجندة زيارة رسمية لرئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري إلى دمشق. إلا أن الرد السوري، كما ينقل المصدر، كان أن سوريا "منشغلة بترسيم حدودها مع الأردن". ثم جاءت استقالة الحكومة اللبنانية لتدفن الملف بشكل كامل، حيث يؤكد المصدر: "حسب علمي، لم تتم متابعته بشكل فعلي بعد ذلك".
لماذا الآن؟
في هذا السياق، تبرز تساؤلات حول الدافع لإعادة إحياء هذا الملف الآن. يرفض العميد ياسين الربط المباشر بملف الغاز، "نظراً لأن مسارات خطوط الغاز لا تتقاطع مع المناطق المختلف عليها". بدلاً من ذلك، يرى أن "الهدف الأساسي هو مكافحة التهريب بكافة أشكاله، وتنظيم المعابر، وتشديد الرقابة الأمنية، مما ينعكس إيجاباً على استقرار وأمن المنطقة بأسرها ويحد من نشاط الجماعات المسلحة غير النظامية".
هذه النقطة تلتقي مع تحليل السفير نعماني للمقاربة "الدولية"، حيث يشير إلى أن المجتمع الدولي يريد ضبط الحدود "لأنه يرى بأن حركة الأسلحة والمسلحين والتهريب غير المنضبطة تساهم في زعزعة الأمن في الإقليم". ويذهب نعماني إلى أبعد من ذلك، مشيراً إلى أن ما يحدث في غزة وسوريا ولبنان أظهر بعض معالم هذه الخرائط الجديدة التي قد تحل محل "سايكس-بيكو"، في إطار مشاريع إقليمية كبرى.
التحديات المستقبلية وشروط النجاح
أمام أي مسار مستقبلي للمفاوضات عقبات جمة. بالإضافة إلى التعقيدات التاريخية والأمنية، هناك شرط دستوري لا يمكن تجاوزه، كما يحذر العميد ياسين: "أي اتفاقية تثبيت أو ترسيم للحدود يجب أن تُعرض على مجلس النواب للحصول على موافقته وتصديقه عبر قانون صادر عنه". وهو يستشهد بـ"ثغرة قانونية جوهرية" في الاتفاق البحري مع إسرائيل بسبب عدم تصديق البرلمان عليه.
من جهته، يرى السفير نعماني أن العملية "ستكون معقدة وشائكة وطويلة"، معتبراً أن "السياسيين اللبنانيين لم يرتقوا إلى مستوى التفكير بأنهم يمكنهم أن يقوموا بترسيم حدودهم"، بل ينظرون إليه على أنه مجرد تطبيق للخرائط الفرنسية.
ختاماً، بينما يُثمّن العميد ياسين الدور السعودي التسهيلي السابق، يرى نعماني أن "السعودية قطب الرحى" والقادرة على لعب "دور حاسم" إذا أرادت. يبقى السؤال: هل ستفوق الإرادة الدولية والإقليمية على عقود من الإهمال والإشكاليات المحلية، لتحويل هذا الملف الشائك من أداة صراع إلى جسر للاستقرار؟ الإجابة، كما توحي التصريحات، ليست في يد بيروت ودمشق وحدهما.