في الجنوب، تستمر إسرائيل في استهداف معدات الأشغال المدنية من حفارات وجرافات وشاحنات، في تصعيد يهدد عودة الحياة الطبيعية بعد الحرب الأخيرة. كل غارة تضرب بشكل مباشر مشاريع إعادة الإعمار، وتخلق بيئة من الخوف والضغط الاجتماعي، بما يعيق عودة الأهالي إلى قراهم ويزيد من التوتر على الأرض. ما يبدو كقصف عابر يحمل في طياته رسائل مزدوجة، سياسية وعسكرية، ويكشف استراتيجية إسرائيل في تحويل إعادة الإعمار إلى ساحة مواجهة غير مباشرة، حيث كل تأخير وكل توقف في العمل يعزز النفوذ الإسرائيلي على الأرض ويضغط على المجتمع المحلي والدولة اللبنانية.
الجنرال بهاء حلّال قال عبر "وردنا" إن العدو الإسرائيلي، من خلال استهداف معدات الأشغال المدنية من حفارات وجرافات وآليات، يوجّه رسالة عسكرية مزدوجة وواضحة.
وأوضح أن إسرائيل، من جهة، تمارس تكتيكاً ميدانياً يهدف إلى فرض منطقة عازلة بالنار. وأضاف أن تلويحها بالقصف يهدف إلى ترهيب العاملين المدنيين والبنية التحتية في الجنوب اللبناني، خصوصاً القريبة من الحدود، ومنع ترميم أو تحسين المواقع أو الطرق التي قد يستخدمها حزب الله في تحركاته أو لإخفاء سلاحه.
وأشار إلى أن هذا الاستهداف يطال أيضاً البيئة الحاضنة للمقاومة أو حزب الله، لأن هذه المعدات تُستخدم عادة لخدمة المدنيين والبلديات. وأوضح أن ضربها يعني التضييق على السكان وخلق جو من التوتر والضغط على المجتمع، في محاولة لإحداث فجوة داخلية بين الحزب وبيئته.
وتابع حلّال أن الرسالة التي تبعثها إسرائيل واضحة: أي نشاط مدني في الجنوب قد يُعتبر دعماً لوجستياً لحزب الله، وبالتالي سيكون عرضة للاستهداف. وشدّد على أن هذا تصعيد خطير يخلط بين المدني والعسكري، ويؤكد أن إسرائيل تعتبر الجنوب كله ساحة مفتوحة أمام قصفها، ما قد يكون تمهيداً لتوسيع العمليات العسكرية إذا لم تُلجم سياسياً أو ميدانياً.
كما أشار إلى أن القصف يدخل في إطار سياسة الضغط الميداني، لكنه في الوقت نفسه يحمل مؤشرات على احتمال التمهيد لتوسيع العمليات. وأوضح أن إسرائيل تستخدم هذا النوع من القصف كأداة ردعية مستمرة، لعرقلة أي نشاط ميداني قد يُفسَّر كتحضير دفاعي أو هجومي من قبل المقاومة. وأضاف أن الهدف أيضاً خلق بيئة توتر دائم في الجنوب، إذ يجعل ضرب المعدات المدنية أي نشاط طبيعي محفوفاً بالمخاطر، ما يؤدي إلى شلّ الحياة اليومية.
وأكد أن تزامن هذه الضربات مع تحركات الوفد الأميركي ليس صدفة، بل رسالة ضغط بالنار لتأمين شروط سياسية أفضل في أي تفاوض غير مباشر.
وبالنسبة للتمهيد لتوسيع العمليات، رأى حلّال أن هذه الاستهدافات قد تكون بمثابة اختبارات ميدانية لردود فعل حزب الله، لقياس مدى جهوزيتها وما إذا كانت هناك قواعد اشتباك جديدة. وأضاف أن القصف المستمر للبنى التحتية والمعدات المدنية يضعف القدرات اللوجستية للجانب الآخر، وهو أسلوب كلاسيكي تستخدمه إسرائيل قبل أي عملية موسعة. كما لفت إلى أن عنصر الرسائل الردعية الاستباقية حاضر، إذ تحاول إسرائيل تدمير ما تعتبره عناصر دعم قبل أي مواجهة محتملة، حتى لو كانت مدنية.
وتابع حلّال أن القصف الإسرائيلي يدخل ضمن ضغط ميداني محسوب، لكنه ليس بريئاً من نوايا تصعيدية. وشدّد على أن إسرائيل توازن حالياً بين الردع والاستفزاز، وتبقي خيار التوسيع العسكري على الطاولة، بانتظار القرار السياسي أو المتغير الميداني.
وأضاف أن الربط بين استهداف معدات الأشغال المدنية وإعادة الإعمار وعودة الأهالي إلى الجنوب هو مفتاح فهم الأهداف غير العسكرية للعدو، إذ تتحول عرقلة إعادة الإعمار إلى أداة حرب غير مباشرة. وأوضح أن إسرائيل تدرك أن إعادة إعمار البنى التحتية المدمرة شرط أساسي لعودة الحياة الطبيعية والسكان، ولذلك تضرب الآليات والمعدات لإبطاء العودة. وقال إن كل مشروع إعمار متوقف يعني قرية مدمرة تبقى خالية، وكل تأخير في البنى التحتية يعني بيئة طاردة لأهلها، وكل خطر على العمال والمهندسين يعني توقف العمل.
واعتبر أن إسرائيل بهذا الأسلوب تسعى إلى خلق ضغط شعبي على الدولة وعلى المقاومة. وأوضح أن الناس تريد العودة إلى بيوتها لكنها لا تجد خدمات، والحكومة عاجزة عن الترميم تحت القصف، والبيئة الحاضنة تُستنزف تدريجياً. وشدّد على أن الحرمان من العودة والإعمار يتحول إلى ورقة ضغط سياسي على لبنان، تستخدمها إسرائيل لانتزاع تنازلات.
وأكد حلّال أن النتيجة تهديد للأمن المجتمعي على المدى الطويل، إذ تصبح عودة الأهالي مغامرة، والشركات تمتنع عن العمل في مناطق مستهدفة، والأطفال لا يستطيعون الذهاب إلى مدارسهم في قرى مهددة. وأضاف أن كل ذلك يؤدي إلى تفريغ تدريجي للمناطق الحدودية، وهو هدف استراتيجي لإسرائيل منذ عام ١٩٤٨ وحتى اليوم.
وأكد أن هذا التصعيد الإسرائيلي، وخصوصاً استهداف المعدات المدنية وكل ما يضخ الحياة في القرى حتى في محيط مواقع اليونيفيل، سينعكس على المفاوضات والمبادرات الدبلوماسية. وأوضح أن التصعيد يقوّض الثقة بالمسار الدبلوماسي، لأن الرسالة الضمنية لإسرائيل هي أنها لا تأخذ المبادرات بجدية، بل تستثمر التصعيد لتعزيز موقفها التفاوضي. وأضاف أن هذا يضع الوسطاء الأميركيين والأوروبيين في موقف حرج أمام الطرف اللبناني ويجعل جهودهم تبدو عاجزة.
وتابع حلّال أن التصعيد يعزز موقف المقاومة في رفض تقديم التنازلات، وقال إن إسرائيل لا تحترم التزاماتها، والضمانات الدولية تبدو وهمية، وأي تهدئة مشروطة تفقد معناها في ظل استمرار العدوان. وأضاف أن هذا السلوك يكشف نوايا إسرائيل الحقيقية، التي تستخدم المفاوضات كغطاء لتحسين شروط المواجهة، فيما هي على الأرض تضرب البنية التحتية وتشّل القدرات وتخلق ضغطاً داخلياً، وهو ما يُضعف أي ثقة لبنانية بالمسار التفاوضي.
وأضاف حلّال أن التصعيد العسكري الإسرائيلي يضعف مصداقية المسارات الدبلوماسية، ويدفع الأمور نحو مزيد من التصلب، في رسالة أن التفاوض ليس مدخلاً للتهدئة بل مجرد أداة مرافقة للضغط الميداني. وأكد أن الرد اللبناني، الرسمي والشعبي، سيكون مرتبطاً بمدى وضوح هذه اللعبة، وبإرادة رفض الابتزاز بالنار.
وأشار إلى أن الدولة اللبنانية تملك وسائل عدة لحماية معداتها وموظفيها رغم الصعوبات. وقال إن ذلك يبدأ بتكثيف التنسيق مع اليونيفيل، من خلال إبلاغ الأمم المتحدة مسبقاً بمواقع الورش وأعمال البنى التحتية، وتأمين مرافقة رمزية تقلل فرص الاستهداف، مشيرا الى أن "هناك خطة حماية مدنية وأمنية مشتركة، يكون الجيش اللبناني مسؤولاً عن حماية الفرق والمعدات عبر انتشار مدروس أو نقاط مراقبة، بالتعاون مع البلديات والمجتمع المحلي لتأمين إنذارات مبكرة".
وتابع: تفعيل الدبلوماسية الوقائية عبر تقديم مذكرات رسمية للأمم المتحدة ومجلس الأمن وتوثيق الاستهدافات والمطالبة بإدانات واضحة من أبرز وسائل حماية المدنيين والمعدات. وقال إن العمل ضمن خطط مرنة وغير مكشوفة، عبر تبديل مواعيد الورش وتوزيعها، يقلل من الانكشاف، كما يجب تحميل إسرائيل المسؤولية القانونية والأمنية عن كل استهداف موثق، باعتباره عدواناً على السيادة اللبنانية يمكن ملاحقته أمام القضاء الدولي أو محكمة العدل الدولية، خاصة إذا طال موظفين مدنيين أو عناصر رسمية.
وختم حلّال حديثه لـ"وردنا" بالتأكيد أن الدولة، رغم هشاشة الواقع، تملك أدوات سياسية وأمنية ودبلوماسية لحماية معداتها وموظفيها، وأكد أن المطلوب ممارسة دور سيادي واضح وحازم، وأن تُعلن للعالم أن استهداف المدنيين أو المؤسسات العامة هو خط أحمر، وأن إسرائيل ستُحاسب عليه في المحافل الدولية.