هل يتحوّل

في كينشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية، يعرفه الناس بلقب "ملك الخبز"، نظرًا لحجمه التجاري الكبير في صناعة الطحين والمخابز. لكن في ملفات وزارة الخزانة الأميركية، يحمل صالح علي عاصي اسماً مختلفاً: رجل أعمال متّهم بغسل الأموال وتمويل حزب الله، عبر شبكات مالية معقّدة تمتد من أفريقيا إلى الشرق الأوسط.

صالح علي عاصي، رجل أعمال لبناني يحمل الجنسية الفرنسية، يُقيم منذ سنوات في الكونغو، حيث يدير واحدة من أنجح شركات طحن الدقيق هناك.

غير أن اسمه دخل قائمة العقوبات الأميركية منذ ديسمبر 2019، حين وجّهت إليه وزارة الخزانة الأميركية اتهامات تتعلق بعمليات غسل أموال، والتهرّب الضريبي، والعمل لصالح "حزب الله".

عاصي نفى الاتهامات بشكل قاطع، مؤكداً في بيان رسمي أن نشاطاته الاقتصادية تتم وفق أعلى معايير الشفافية والامتثال للقوانين الدولية. ورغم هذا النفي، سارعت السلطات في جمهورية الكونغو إلى تجميد أصوله، تجاوباً مع الرسائل الأميركية التي وصلت إلى المصارف المحلية، تطالب بتقارير مفصّلة حول حساباته الشخصية، وحسابات بعض الشركات التي يُشتبه أنها تابعة له، أو يديرها مقربون منه.

بحسب تقرير بثته قناة "الحدث"، فإن وحدة الاستخبارات الأميركية هي من تولّت متابعة الملف مباشرة، حيث راسلت الحكومة الكونغولية والمصارف، محذّرة من وجود نشاطات مالية مريبة مرتبطة بعاصي وشبكته. وتشير المعطيات إلى أنه أنشأ، خلال السنوات الأخيرة، سلسلة شركات سجلها باسم أقارب أو أصدقاء، بهدف مواصلة العمل بشكل غير مباشر، ما جعل السلطات المحلية تواجه صعوبة في تتبّع نشاطه أو تفكيك هذه الشبكات.

نفوذ عاصي في الكونغو ليس بالأمر العابر، فهو يتمتع بعلاقات من المستوى الرفيع مع مسؤولين رسميين، وقد كان أحد رجال الأعمال الأجانب القلائل الذين دُعوا لحضور زفاف ابنة الرئيس الكونغولي، في إشارة واضحة إلى مكانته الخاصة داخل النخبة الحاكمة هناك.

أما في سياق أوسع، فإن قضية عاصي تندرج ضمن سياسة أميركية أشمل تقوم على ملاحقة من تصفهم واشنطن بـ"مموّلي حزب الله" حول العالم. فمنذ أحداث 11 أيلول 2001، شددت الولايات المتحدة من إجراءاتها في هذا الإطار، قبل أن تعتمد في عام 2015 قانون "حظر التمويل الدولي لحزب الله" (HIFPA)، الذي منح وزارة الخزانة صلاحيات موسّعة لإدراج الأفراد والكيانات المرتبطة بالحزب على لائحة العقوبات.

وتقوم وزارة الخزانة، من خلال "مكتب مراقبة الأصول الأجنبية" (OFAC)، بتجميد أصول هؤلاء الأفراد والكيانات، ومنعهم من إجراء أي تعامل مالي بالدولار، ما يضعهم في عزلة اقتصادية شبه تامة.

وتشمل العقوبات ليس فقط شخصيات لبنانية، بل تمتد إلى رجال أعمال وشبكات مالية في أفريقيا، أميركا اللاتينية، أوروبا، والشرق الأوسط، يُعتقد أنها تُمثّل مصادر تمويل حيوية للحزب.

من وجهة النظر الأميركية، هذه العقوبات تهدف إلى إضعاف قدرة حزب الله على الاستمرار بتمويل عملياته في الداخل اللبناني والخارج، وتصف الحزب بأنه أحد أذرع إيران الأساسية في المنطقة.

ولذلك، فإن ملاحقة مصادر تمويله تُعد ضربة استراتيجية للبنية المالية التي تمكّنه من الاستقلال عن مؤسسات الدولة اللبنانية، وتسليح عناصره، وتقديم الرواتب والخدمات الاجتماعية لجمهوره.

في المقابل، يرى خصوم السياسة الأميركية، ومن بينهم مؤيدو حزب الله، أن هذه العقوبات ليست سوى أدوات ضغط سياسية، تُستخدم لتجويع بيئة المقاومة ومعاقبة رجال أعمال لا علاقة لهم بالنشاطات الحزبية. وهم يشيرون إلى أن بعض الأسماء المدرجة على لوائح العقوبات لم يثبت تورطها بشكل مباشر في أي دعم للحزب، وإنما طالتهم بسبب علاقات أو أنشطة تجارية في مناطق تصنّفها واشنطن على أنها "عالية الخطورة".

في النهاية، تظل قضية صالح علي عاصي معلّقة بين سرديتين: الأولى تراه "مبيض أموال محترف" يعمل ضمن شبكة عالمية لتمويل حزب الله، بحسب اتهامات الإدارة الأميركية؛ والثانية تصوّره كرجل أعمال ناجح دفع ثمن نشاطه في بيئة دولية معقدة، حيث أصبحت التجارة، خصوصًا في الدول الإفريقية، مرتبطة بالسياسة والاصطفافات الإقليمية.

فهل يتحوّل فعلاً "ملك الخبز" إلى أحد أهم ممولي حزب الله؟ أم أن القصة أعقد مما ترويه لوائح العقوبات؟

يقرأون الآن