لا تنفصل المعركة التي فتحتها قوى المعارضة السورية في حلب عن كل تطورات الوضع في المنطقة. بعيدًا عن أي تفسيرات "تآمرية" لتوقيت هذه الخطوة، لا شك أن المعارضة اختارت لحظة سياسية وعسكرية مفصلية لتدشين هجومها. فقد استغلّت تراجع قوة إيران وحلفائها، إلى جانب الأزمة المتفاقمة التي يعاني منها النظام السوري نتيجة عوامل متعددة. ومما يزيد المشهد تعقيدًا، أن الملف السوري لا يمكن عزله عن الملفات اللبنانية والفلسطينية، في ظل التحولات الكبرى التي تمر بها المنطقة، بدءًا من الحرب في غزة وصولاً إلى نتائج الانتخابات الأميركية وفوز دونالد ترامب، الذي يسعى إلى التقارب مع روسيا لحل الأزمة الأوكرانية، وسط توقعات بأن يكون لهذا التقارب ثمن في الملف السوري. هذا بالإضافة إلى إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا عن استعداد تركيا لتحمل مسؤولية إدارة مناطق الانتشار الأميركي في سوريا، في حال قرر ترامب الانسحاب منها وفق ما ورد في "المدن".
في الأسباب ونتائجها، نقاط عديدة يمكن تسجيلها حول توقيت المعركة ومآلاتها:
أولاً، التقدم الإسرائيلي الذي جرى على مدى الأسابيع الماضية في الجنوب باتجاه القنيطرة والقيام بعمليات تجريف ورفع سواتر في إطار فصل "الجغرافيا السورية عن الجغرافيا اللبنانية" لقطع طرق الإمداد والمدى الواسع الذي يمكن لحزب الله أن يتحرك ضمنه.
ثانياً، تهديدات إسرائيلية واضحة للنظام السوري في ضرورة التوقف عن السماح بإدخال الأسلحة والإمداد العسكري لحزب الله في لبنان.
ثالثاً، مفاوضات غير مباشرة ومباشرة حاول النظام السوري خوضها مع الولايات المتحدة الأميركية في سبيل إعادة تعويم نفسه مقابل ضغوط وشروط أميركية واضحة تدفع إلى إحداث تغييرات سياسية.
رابعاً، خروقات عديدة من قبل النظام السوري والإيرانيين على مدى الأشهر السابقة لكل اتفاقات خفض التصعيد في آستانا ومواصلة تنفيذ هجمات ضد مناطق المعارضة.
خامساً، قدرة تركيا على لعب دور أساسي وفاعل في سوريا، وإبداء الاستعداد للعب دور مستقبلي في غزة وحتى في لبنان من خلال تعزيز دورها في قوات اليونيفيل.
سادساً، محاولة تركيا أكثر من مرة إجراء مصالحة مع دمشق والتي رفضها الأسد مصراً على وضع الكثير من الشروط.
سابعاً، استشعار قوى المعارضة السورية فتح مسار جديد على المستويين الإقليمي والدولي لتقويض نفوذ إيران وحلفائها في المنطقة، وإمكانية تكريس ذلك في سوريا.
استعادة من "الحضن الإيراني"
كل هذه العوامل يمكنها أن تتداخل وتتقاطع في مكان، وتتضارب في مكان آخر، ما يطرح الكثير من الأسئلة، حول مدى التقدم الي ستحرزه قوى المعارضة وإذا كان سيقتصر على حلب والبقاء فيها، أم سيتوسع باتجاه محافظات أخرى.
وعلى وقع هذه المعارك ستفتح أبواب كثيرة للتفاوض بين القوى الإقليمية والدولية المتشابكة أو المتقاطعة فوق الجغرافيا السورية. أحد أبرز عناوين التفاوض ستكون مواصلة الضغوط السياسية على دمشق لتقديم ما يجب تقديمه في سبيل قطع طرق الإمداد عن حزب الله في لبنان، بالإضافة إلى تقديم تنازلات سياسية. وهو لا ينفصل أيضاً عن محاولات دول عربية عديدة منذ أشهر للانفتاح على دمشق تحت مسمّى "استعادة سوريا من الحضن الإيراني" والعمل على تقويض النفوذ الإيراني هناك مقابل إعادة تعويم النظام وتوفير المساعدات اللازمة له.
في هذا السياق، تحضر التهديدات الإسرائيلية في تغيير وقائع المنطقة، أو تغيير وجه الشرق الأوسط بمعانيه الأمنية والسياسية، وهو ما أرادت تل أبيب تكريسه في لبنان وفي غزة، وبعدهما تريد الانتقال باتجاه دمشق وبغداد، تحت عنوان مواجهة إيران. هنا ستبرز الضغوط الإسرائيلية أمنياً، وعسكرياً وسياسياً في سوريا كما في لبنان، في سبيل تغيير هذه الوقائع، ومحاولة إسرائيل استغلال تقدّم المعارضة لإضعاف النظام أكثر، وصولاً إلى قطع "الكوريدور" الإيراني الاستراتيجي من طهران، إلى بغداد، فدمشق فبيروت. وتفيد كل المؤشرات بأن تل أبيب وواشنطن ترفضان بشكل كامل استمرار هذا الطريق مفتوحاً، وكان واضحاً الاستشعار العراقي المبكر لمخاطر ما يجري في سوريا، فعملت بغداد على إرسال ألوية عسكرية إلى الحدود العراقية السورية، كي لا يتكرر بصورة معاكسة انهيار الموصل سابقاً والتوسع نحو الأراضي السورية.
تغيير الواقع
ما يجري في سوريا هو مخاض جديد، لا ينفصل عن كل التطورات التي شهدتها المنطقة بعد عملية طوفان الأقصى، والمساعي الأميركية الإسرائيلية المشتركة لتغيير الوقائع العسكرية والسياسية، وهو ما يعتبر الأميركيون أنهم حققوا فيه تقدماً في لبنان، من خلال الحرب على حزب الله، واتفاق وقفها فيما بعد وصولاً إلى كلام الشيخ نعيم قاسم والذي قال بوضوح إن حزب الله دعم فلسطين وسيستمر في توفير الدعم لها ولكن بطرق مختلفة. وهذا الكلام يعني التخلي عن الخيار العسكري، كما تخلى عن معادلة "ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة"، لصالح منع استضعاف لبنان من خلال قوة المقاومة والجيش، كما أنه تخلى عن معادلة "وحدة الساحات"، وهذا ما يريد الأميركيين تطبيقه فعلياً في لبنان، ونقله إلى كل من سوريا والعراق بحسب "المدن".