يُعتبر سقوط النّظام في سوريا انهيار الأساس الذي قام عليه ما يُعرف بالهلال الشّيعي الذي يضمّ إيران، العراق، سوريا ولبنان. والذي نشأ بعد سقوط نظام صدّام حسين في العراق عام 2003.
كان استمرار "الهلال الشّيعي" ذروة الصّعود لما عُرِف في لبنان بـ"عهد الشيعيّة السّياسيّة". هذه ما كانَ عبّر عنها سابقاً بعد انتفاضة 6 شباط 1984، التي شاركت فيها حركة أمل، رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الاعلى الشيخ عبد الأمير قبلان بقوله: "لقد خرجنا من القمقم ولن نعودَ إليه".
كان الشيخ قبلان يومذاك يشغل منصب المفتي الجعفري الممتاز. وكان مغزى كلامه أنّ الطائفة الشيعيّة في لبنان انطلقت مع حالة الانكفاء إلى الانتشار والتوسّع. وأنّ الشّيعة لن يبقوا راكنين في هوامش الحركات اليساريّة والقوميّة والمنظّمات الفلسطينيّة. إذ صار هناك تجمّعاً سيّاسيّاً مسلّح هو حركة أمل التي يقودها رجلٌ واحد هو الرئيس نبيه برّي.
مع تصاعد نفوذ حركة أمل، كان تنظيم شيعيّ جديد قد وُلِدَ في لبنان من رحم الثورة الإسلاميّة في إيران هو "حزب الله".
كانَ امتداد الحزب إلى طهران وتجاوزه للجغرافيا اللبنانيّة بكلّ ما للكلمة من معنى نقلةً نوعيّة للشّيعة وحالتهم العسكرية والسياسية من لبنان إلى العراق.
بين عاميْ 2003 و2005، فقدَ السّنّة في المنطقة هامتيْن أساسيّتيْن. في بغداد، كان الأميركيون يطيحون بنظام صدّام حسن في 2003. والذي كان يعتبر "الدّشمة العربية - السّنيّة" في وجه توسّع المشروع "الإيرانيّ - الشّيعيّ" نحو بلاد الشّام.
في بيروت، كان رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري والذي كان يمثّل حقبة ما يعرف ب"السّنيّة السياسيّة" في لبنان، يُغتال يومَ 14 شباط 2005. وبذلكَ كانت صفحة السّنيّة السياسية تطوى لتظهر بعدها صفحة جديدة اسمها "الشيعية السياسية".
ما بين الاغتياليْن كان العاهل الأردني عبدالله الثاني يحذّر من صعود "الهلال الشيعي". وكان أوّل من استعمل هذه العبارة للدّلالة على الصورة المقبلة على المنطقة.
في لبنان كان "حزب الله" بات يمسك بزمام الشؤون السياسية والعسكرية والأمنية في لبنان. وجاءت حرب تموز 2006 للتوّج ما يسعى إليه الحزب لتمكين الحكم الشيعي في بيروت. وقد عزّز ذلك سياسياً بعد اتفاق الدوحة الذي أبرِمَ عقب اشتباكات 7 أيار 2008، والذي منح الحزب وحلفائه الثلث المعطل وعبارة "الجيش والشعب والمقاومة" التي باتت غطاء سياسياً لسلاح الحزب.
قبل اندلاع الثورة السورية في آذار 2011 بعام، كان الحزب قد انقضّ بالكامل على السلطة في لبنان. فأسقط حكومة سعد الحريري في 2010 عبر الثلث المعطل، وشكّل حكومة ما يعرف ب"القمصان السود".
ومع اندلاع شرارة الثورة السورية، نقل الحزب اهتمامه الى دعم حليفه بشار الأسد. فشارك في كافة المعارك التي حاول فيها إبقاء ركيزة "الهلال الشيعي" قائمة. من القصير الى جبال القلمون وحمص وريف دمشق، ولاحقاً وصولا الى حلب ودير الزور وريف حماة.
في هذه الفترة كانت إيران تبرم الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة ودول المجموعة الأوروبية وروسيا في 2015. ما منح طهران عشرات مليارات الدولارات وموافقة ضمنية من إدارة باراك أوباما يومها على ترسيخ نفوذ طهران، ما أتاح السيطرة على مساحة واسحة من الجغرافيا السورية.
وهذا ما استغله حزب الله في لبنان لانتخاب حليفه ميشال عون رئيساً للجمهورية في 2016.
خلال هذه السنين كانت سطوة "الشيعية السياسية" واضحة في الممارسة السياسية اللبنانية. تعيينات واستغلال للحدود والمرافئ وتهريب وفائض قوة يمارس ضد اللبنانيين. ولعل أبلغ مثال على ذلك تهديد وفيق صفا للقاضي طارق البيطار الذي كان يحقّق في انفجار مرفأ بيروت.
جاء يوم السابع من أكتوبر 2023، وفيه الهجوم الذي شنّته "حماس" على مستوطنات غلاف غزّة، وإعلان الحرب الإسرائيلية على حماس. بعدها بيوم، قرّر حزب الله جرّ لبنان بأسره الى "حرب الاسناد" التي استمرّت ل11 شهراً، قبل أن تقرر تل أبيب الانقضاض على الحزب في لبنان.
كان الحزب يومها ينتشي بما يعتقد أنّه "فائض قوة" يردع إسرائيل والولايات المتحدة عن شنّ حرب ضدّه. لكنّ مصير الشيعيّة السّياسيّة لم يختلف عن مصير "السنية السياسية" ولا "المارونية السياسية". فلاقى أمين عام الحزب حسن نصرالله مصير رفيق الحريري وبشير الجميّل.
لم تقف انتكاسة "الشيعيّة السّياسيّة" والهلال الشيعي" عند اغتيال نصرالله وتراجع نفوذ الحزب وقوته في لبنان. بل وصلت الى حدّ إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، وبالتالي انهيار "الهلال" بكامله.
اليوم بات حزب الله مقطوعاً عن ايران جغرافياً بعد سقوط الأسد. يضاف ذلك إلى قدرته التي ضعفت كثيراً بفعل الضربات الإسرائيلية في الحرب الأخيرة واغتيال أغلب قادته العسكريين وضرب بنيته العسكرية.
تغير خطاب الحزب بعد استلام الأمين العام الجديد الشيخ نعيم قاسم القيادة. فصار الحديث عن "مدّ اليد" و"بناء الدولة تحت سقف اتفاق الطائف" وغيرها من العناوين المبشّرة. لكنّ الأفعال هي التي تؤكد الأقوال.
لكنّ أحداث المنطقة لا تشي إلا بأمر واحد، وهو أنّ "المارد الشيعي" الذي خرج من القمقم ذات يومٍ عليه أن يعود إلى داخل لبنان، وأن يستقرّ في موقعه الطّبيعيّ.