لا أميل كثيرًا للتفسير التآمرى للتاريخ بأحداثه ومواقفه، ومع ذلك فإننى لا أرفض منطق المؤامرة فى كثيرٍ من الأحيان وأراها جزءًا لا يتجزأ من الحياة السياسية الدولية والإقليمية، بل والمحلية أيضًا، فالسياسة كالسائل اللزج بما فيها من ألاعيب ومؤامرات، بل إن هناك أحداثًا غامضة فى التاريخ لايمكن تفسيرها إلا بمنطق المؤامرة، ولعل أشهرها فى القرن الماضى اغتيال الرئيس الأمريكى الراحل جون كيندى عام 1963 فى جريمة غامضة مازالت حتى الآن محل جدل وموضع خلاف.
فالتاريخ سلسلة متصلة من المواقف العلنية والأحداث الخفية، ولكل عهد شخوصه ورموزه وانتصاراته وانكساراته وأيضًا فواجعه وأحزانه، ولعل الذى أغرانى بالكتابة فى هذا الموضوع الآن هو ما جرى منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى الآن على نحو يعيد إلى الأذهان الحادث الشهير فى برجى التجارة العالميين فى نيويورك 11 سبتمبر 2001.
فالغرب بارع فى صنع المصادفة إذا جاز التعبير، وتكوين الفعل الذى يريد له هو رد فعل معين، فضلا عن الأجواء التى يصنعها الإعلام المعاصر أحيانًا تمهيدًا لكل حدث ضخم أو تبريرًا له أو استفادة منه، فالبعض يرى أن حادث البرجين فى نيويورك كان جزءًا من مؤامرة محكمة، وأن دوافع السابع من أكتوبر 2023 قد تمثلت فى عدد من الأمور والأهداف التى اندفع القائمون بها اعتمادًا على رد الفعل المحتمل، وسعى الطرف الآخر للاستفادة من ذلك واستثماره لتحقيق سياسات عدوانية وجرائم عنصرية تجد تبريرها فيماحدث بغض النظر عن المبادئ والأخلاق والقيم والأعراف.
فنكبة البرامكة فى العصر العباسى كانت نتيجة وشايات للخليفة هارون الرشيد حول تطلعاتٍ مكتومة للبرامكة الذين كانوا أقرب الناس للخليفة العباسى حينذاك، ومثل حادث الخلاف بين الحوذى والمالطى فى مدينة الإسكندرية والتى اتخذت مبررًا لدخول الأسطول البريطانى واحتلال مصر عام 1882، وما أكثر الأمثلة فى التاريخ الغربى والعربى لدور خفى يدفع فى اتجاهات معينة يصب رد فعلها فى مصلحة قوى أخرى تآمرت فى الخفاء وتعاملت مع خصومها على نحو غير متوقع، وعندما يناقش البعض مبرر ما جرى فى غزة فى أكتوبر 2023 حتى الآن فإنهم يتجاهلون الاختلاف بين الدوافع الوطنية للشعب الفلسطينى وبين تغيير سياق الأحداث، لتكون جزءًا من سلسلة دامية لتصفية القضية الفلسطينية وإجهاض شعبها وتحطيم البنية الأساسية لها، بالإضافة إلى هدم المنازل وقتل المدنيين وتحويل القطاع إلى مجزرة حقيقية للأطفال والنساء وكبار السن من قليلى الحيلة فى ظروف النزاعات المسلحة وما يعتورها من جرائم وما يرتكب فيها من خطايا.
ثم صحونا بعد ذلك فى بدايات شهر ديسمبر 2024 بفلول وفدت من الأفق الغامض لشمال غرب سوريا لكى تضيف بعدًا جديدًا للوضع القائم فى واحدة من أهم الدول العربية وهى سوريا بتاريخها العريق، فيها عاصمة أول دول الخلافة الإسلامية، فإذا بنا نشهد من كانوا فى تماس مباشر مع منظمات إرهابية هم أنفسهم صناع الحالة الجديدة التى تختلف كثيرًا عما كانوا عليه، مستثمرين كراهية العرب والسورييين لنظام بشار الأسد الذى اتسم بالعنف وسار على خطى النظم المستبدة، وبالتالى كان سقوطه مصدر فرحة سورية وعالمية، ولكن وجدنا تركيا تراقب عن كثب ما يحدث، والدب الروسى يتماسك ويتفاوض حرصًا على قاعدتيه التى يطل منهما على شاطئ البحر المتوسط حيث المياه الدافئة فى اللاذقية وطرطوس، وقد انقسم الرأى العام العربى منذ ذلك الوقت بين الفرح الشديد والقلق المشروع، بينما خرجت إيران من المسرح خاسرة إلى حد كبير، فى الوقت الذى أصبحت فيه إسرائيل هى الرابح الأول بسياستها العدوانية العنصرية الإجرامية وممارساتها التى لا يصدقها عقل، وتبقى الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الرئيسى فى مجريات الأحداث.
ولعل من سوء الطالع أن تقترن هذه الفترة بتغيير ساكن البيت الأبيض ووصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية بسياساته المنحازة لإسرائيل وأفكاره المتطرفة ومواقفه غير المتوقعة، دعونا نقول فى النهاية إن المؤامرة حركة مفصلية فى التاريخ لها وجود فى كل العصور، ولكن ذلك لا يبرر الاعتماد عليها والارتكان إليها، لأن خطورة ذلك تأتى من أنها تبدو مبررًا لكل الهزائم والانكسارات، بحيث يقول الخاسرون إن ماحدث مؤامرة ضدهم، بينما يعربد الفائزون فى مسرح الأحداث وينظرون فى شماتة لضحايا المذابح وشهداء المعارك ومن فقدوا حياتهم بالاغتيال غدرًا، خصوصًا شهداء القضية الفلسطينية التى تمثل قميص عثمان الذى يرتديه كل صاحب قضية أو وضعته الأقدار فى مسئولية، فكانت النتيجة على النحو الذى نراه والمشهد الذى نعيش فيه.
الأهرام