معادلة الحرب والسلام!

فى زمننا هذا حربان، حرب أوكرانيا ثم حرب غزة الخامسة، كلتاهما كانت لها نتائج سلبية على مصر. تتابعهما من الأولى إلى الثانية يكلف مصر شهريًّا ٨٠٠ مليون دولار؛ وكلتاهما جاءت فى لحظة حرجة بعد «كوفيد ١٩» لكى يعكس الأمر النمو الاقتصادى والاندفاع الحداثى والتقدم العام ويأتى بأزمة اقتصادية وظروف إقليمية قلقة. الآن فإن كلتا الحربين تعبران إلى منعطف حاد ما بين الحرب والسلام؛ أو بين القتال ووقف إطلاق النار، وبينما تقود الولايات المتحدة ورئيسها ترامب شخصيًّا عملية التفاوض ما بين روسيا وأوكرانيا مع افتتاحية لوقف إطلاق النار قدرها ٣٠ يومًا؛ فإن الولايات المتحدة ومصر وقطر تقوم بالوساطة استنادًا إلى اتفاق جرى على التفاوض من جديد حول مرحلة ثانية للهدنة وتبادل الأسرى والمحتجزين. بمقياس معادلة الحرب والسلام، فإن مفاوضات الرئيسين ترامب وبوتين التليفونية لثلاث ساعات لم تصل إلى اتفاق يخص وقف إطلاق النار، وإنما جرى الاتفاق على تقييد إطلاق النار على مناطق الطاقة الحيوية بما فيها النووية. على العكس فى الشرق الأوسط، فإن المعادلة لم تكن على هذا النحو، فقد انهارت المفاوضات، بعد أن دخلت إلى طريق مسدود لأن إسرائيل ونصيرتها قررتا الخروج على الاتفاق القاضى بالتفاوض على مرحلة تالية؛ وبدلًا من ذلك مدتا الهدنة إلى خمسين يومًا تقوم فيها حماس بالإفراج عن أعداد أكبر من المحتجزين وجثثهم. العرض كان إما بالقبول أو أن أبواب جهنم سوف تُفتح؛ وما حدث كان أن أبواب جهنم فُتحت فور قيام السحور على غزة.

إحدى المفارقات- وهى كثيرة- بين حرب أوكرانيا وحرب غزة أن هذه الأخيرة من الناحية الاستراتيجية تمثل حربًا إقليمية؛ وفى الوقت الذى انفتحت فيه أبواب جهنم على غزة، فإن مثيلًا لها انفتح على الحوثيين فى الحديدة وصنعاء؛ وانفتحت أخرى بين إسرائيل وسوريا التى كانت مشتبكة من قبل مع لبنان؛ بينما تكثر التوقعات فى اتجاه نشوب الحرب بين إيران وإسرائيل. مثل ذلك ليس حادثًا فى الحرب الأوكرانية ذات الصبغة العالمية، حيث كانت منضبطة على روسيا وأوكرانيا، وإن كانت الأولى تحصل على المساندة من الصين وإيران وكوريا الشمالية؛ فإن الثانية حصلت على العون من أوروبا وبقدر أكبر وأعظم من الولايات المتحدة.

الحرب هنا جزء من تقسيم القوى فى النظام الدولى الأعلى، حيث أوروبا ساحة دائمة للصراع منذ الحروب النابليونية عبر الحربين العالميتين وما تبعهما من حرب باردة. الفاعل الجديد فى كلتا الحربين وجود دونالد ترامب، الذى أعلن خلال حملته الانتخابية الأخيرة أنه سوف يحقق السلام فى كلتيهما. وعندما عين ممثلًا له للتفاوض فى مسرح عمليات كلتيهما، كان شخصًا واحدًا- هو «ستيف ويتكوف»- عاكسًا لآراء رئيسه فى استخدام «جهنم» «والسلام من خلال القوة» للتأثير على مجرى المفاوضات.

«الحرب والسلام» تاريخيًّا معادلة إنسانية جرت منذ فجر الزمن؛ وزادت فى حدتها مع مولد «الدولة القومية» مع معاهدة وستفاليا عام ١٦٤٨ كفاعل أساسى فيما بات يسمى «النظام الدولى». وهى فى عمومها تعبير عن نزعة الاستحواذ والسيطرة والهيمنة لدى الإنسان من ناحية؛ ونزعة التطور والتقدم والحداثة من ناحية أخرى. وبينما كانت الحرب الأوكرانية تعبيرًا عن هذه الحقيقة حيث إن طرفيها دول قومية التقيا من قبل فى إطار واحد لدولة عظمى هى الاتحاد السوفيتى الذى انكسرت شوكته؛ والآن فإنهما يتواجهان فى المراجعة التى تقوم بها روسيا للنظام العالمى الذى انفردت به الولايات المتحدة لعقدين من الزمان حتى باتت هى «العولمة». حرب غزة على الجانب الآخر قامت على مواجهة تاريخية بدأت منذ عام ١٩٤٨ بين العرب وإسرائيل؛ واستمرت حتى الآن بالمواجهة بين الفلسطينيين الذين يمثلهم الآن «فاعل» من غير الدولة هو «حماس» مع مجمع آخر من الفاعلين غير الدوليين داخل وخارج غزة، والإسرائيليين الذين تمثلهم دولة عضو فى الأمم المتحدة. الغريب أنه فى الحرب التى استمرت منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ حتى الآن فإن الجانب الفلسطينى والعربى لم يكف عن الاستعانة بالقانون «الدولى» و«الدولى الإنسانى» للذود عن عدالة موقفه؛ بينما الطرف الذى يمثلهم ليس من الدول، وأكثر من ذلك فإنه كان قاسمًا جغرافيًّا وتاريخيًّا للكيان السياسى الفلسطينى المنعوت بالممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى. المدهش أنه فى الحالة الشرق أوسطية؛ فإن الدول التى نجحت فى الخروج سالمة من «الربيع العربى» بلا حرب أهلية، ولا ميليشيات عسكرية تقتنص قرار الحرب والسلام؛ جنحت إلى عمليات تنمية طموحة تعوض ما فاتها من تقدم، وبات عليها الآن أن تعيش فى وسط إقليمى يتحدى مسيرتها القائمة على البناء والعمران.

فى كل الأحوال فإن كلتا الحربين تسببت فى خسائر فادحة لأطرافها، روسيا فقدت الكثير من قدراتها التى تجعلها دولة «عظمى»، ولولا أنها دولة نووية حتى الآن لما بقى لها ذكر بين القوى الكبرى؛ أما أوكرانيا الدولة التى جرى غزوها فقد فقدت الكثير: ٣٠٠ ألف من الضحايا، وتدمير ٢ مليون من الوحدات السكنية، وفقدان ١٠٪ من طاقتها الاقتصادية، و١٠ ملايين من النازحين. وفقًا لتقديرات كثيرة، فإن الطرفين يتجهان إلى حالة من «السلام القبيح» الذى تبقى فيه أوكرانيا دولة مستقلة فاقدة لكثير من أراضيها التى تمثل امتدادًا لإقليم القرم الذى احتلته روسيا عام ٢٠١٤؛ وعلى الأرجح دون قائدها زيلينسكى، ولكن سوف تبقى لها فرصة لعضوية الاتحاد الأوروبى مع اليقين أنها لن تدخل حلف الأطلنطى. الوضع فى الشرق الأوسط أشد تعقيدًا بحكم ما وصلت إليه الحرب من طبيعة إقليمية قابلة لمزيد من الاشتعال بفعل الفواعل المقاتلة من غير الدول وفقيرة الحساب للتوازنات العسكرية الجارية. تعريفها للنصر لا يدخل فيه الضحايا ولا الخسائر ولا حتى هدف إقامة دولة وطنية كاملة الأركان. حماس لا يعنيها كثيرًا «حل الدولتين»، ولا الحوثيون يعنيهم تعدد الدول اليمنية، وحزب الله لا يعنيه أكثر من بقائه ثلثًا معطلًا فى الحياة السياسية اللبنانية. جوهر المقاومة ليس استراتيجية للتحرير، وإنما الصمود والبقاء مواكبًا بإيذاء الطرف الآخر سواء كان إسرائيل أو الولايات المتحدة أو التجارة الدولية. وطالما كان الإيذاء جاريًا، فإن المقاومة بخير.

فى كلتا الحربين- أوكرانيا وغزة- لم تكن هناك عناية بالإنسان، وكانت هناك دائمًا الدفوع القانونية والمظلومية، وقدر غير قليل من الحتميات التاريخية حيث فى حالة أوكرانيا حتمية العداء الروسى الأوكرانى؛ وفى حالة غزة دارت الحتمية التى أعطت لليهود حقوقًا تاريخية؛ أما الفلسطينيون فقد كان لديهم حتمية النصر فى معركة غير متكافئة قادمة من العناية الإلهية. المأزق الذى وضعت فيه هذه الحالة «الوجودية» الدول العربية التى توجهت نحو السلام والبناء والتعمير؛ وأرادت أن تمده إلى غزة رفضًا للتهجير، لا يمكن أن يظل فاعلًا ما لم تكن هناك مواجهة مع كيف يكون التعامل مع إسرائيل، وكيف يكون التعامل مع الفواعل من غير الدولة، وفى المقدمة منها حماس.

المصري اليوم

يقرأون الآن