مشقة خروج سوريا من المرحلة الحرجة

سوريا لا تزال في مرحلة اختبارات دقيقة وصعبة تحت المجهر الدولي.

والدعم العربي، وخصوصاً الخليجي، للوضع الجديد برئاسة أحمد الشرع يشكل درع حماية ضمن رهان على دور يعيد دمشق إلى موقعها العربي، في إطار الاستقرار المهم لسوريا والمنطقة والتخفف العملي من حمولات الجهادية السلفية. فالواقع يؤكد صعوبة ضبط الأمن الوطني والإمساك بالبلد عبر سلطة ضيقة على السوريين في "هيئة تحرير الشام"، التي تبدو عاجزة عن ضبط الفصائل "الجهادية" المتحالفة معها أو حتى المندمجة بها ومنعها من ارتكاب مجازر على أساس طائفي. وشعار "من يحرر يقرر" لا ينطبق على الوضع، لأن تحرير سوريا من نظام الأسد كان عملية طويلة وباهظة الثمن قدم فيها السوريون من كل التوجهات التضحيات على مدى أعوام، قبل أن تسمح الظروف الدولية لتركيا بأن تدفع "هيئة تحرير الشام" في مشوار سريع من إدلب إلى دمشق التي هرب رئيسها وأركانه.

وليس ما حدث في جرمانا وصحنايا وحمص وحلب بعد مجازر الساحل ضمن الدعوات إلى "الجهاد" وتكفير أبناء الأقليات سوى ممارسة لعقلية "الغلبة والحكم بالشوكة"، لكن الغلبة على النظام ليست غلبة على السوريين. وإعلان "الجهاد" ضد مكونات سورية هو محاولة لأخذ البلد إلى قندهار وليس إلى المواطنة في الداخل والعلاقات المنفتحة على العالم، وهو أمر مناقض للدعم العربي ودعوة إلى الفشل في الاختبارات أمام المجتمع الدولي، الذي عبرت الأمم المتحدة عن قلقه.

ذلك أن الرصيد المبني في الداخل والخارج للرئيس الشرع، وهو إسقاط النظام وإخراج إيران، ليس ثابتاً من دون تقدم في بناء النظام الجديد على أسس مختلفة عن الماضي. والفرصة المفتوحة ليست من دون حدود لإنهاء التناقض بين الأهداف والشعارات المعلنة، والوقائع على الأرض. فالهدف، حسب الخطاب الرسمي، هو بناء دولة قانون ومواطنة. والوقائع مملوءة بصور الضحايا من الأبرياء في مجازر على أيدي فصائل مسلحة "جهادية" تضم عناصر من سوريا وأخرى من الشيشان وأفغانستان والإيغور وسواها. الحريات السياسية المفتوحة نسبياً، بصرف النظر عن حل الأحزاب الذي هو عمل ضد السياسة والحرية بامتياز، يقابلها تشدد في الحريات الاجتماعية. والظاهر أن الوضع الجديد محرج حيال الشروط الأميركية والأوروبية والمطالب العربية، بالنسبة إلى إخراج المقاتلين الأجانب "الجهاديين" وعدم إعطائهم مناصب في وزارة الدفاع والأجهزة الأمنية بعد منحهم الجنسية. والمعادلة مكتوبة على الجدار بالنسبة إلى الحرص على وحدة سوريا وسيادتها على ترابها الوطني. لا سوريا واحدة من دون التسليم بالتنوع الاجتماعي الغني ومشاركته في السلطة. ولا حماية للتنوع من الفوضى والحرب الأهلية والتدخلات الخارجية من دون وحدة البلاد. والمشهد اليوم مقلق، سجال بين طرفي الاتفاق على ترتيب سياسي للوضع شرق الفرات. ومخاوف في الساحل والسويداء وحمص وحلب ودرعا من صدام ومجازر جديدة، وكل التطمينات المعلنة في الخطاب تحتاج إلى خطوات عملية حاسمة. فليس أخطر من فشل الفرصة الجديدة بعد سقوط النظام سوى أن يتحول النظام الجديد إلى وجه آخر لحكم الرجل الواحد، ضمن مركزية شديدة في نظام رئاسي.

والبديل في اليد، وهو النجاح في بناء دولة لكل المواطنين قادرة على حماية الأمن الوطني وأمن المواطن. فالاحتلال الإسرائيلي يتوسع من دون إمكانات المواجهة حالياً وسط الدعم الأميركي المطلق لحكومة نتنياهو وشركائه في اليمين الديني والوطني المتطرف جداً، وإيران لا تكتم سعيها للعودة إلى "الساحة" السورية من خلال استغلال نقاط الضعف، والمناخ الطائفي المخيف والذي هو من إرث النظام السابق مرشح للتدحرج نحو حرب أهلية أو مطالبة بالخصوصيات والفيدرالية، إن لم تخرج السلطة من القوقعة وتبدأ خطوات واسعة وسريعة على الطريق لإعادة الاعتبار إلى الوحدة الوطنية في المجتمع والسلطة. فالإعلان الدستوري الصادر أخيراً يحتاج إلى تعديل قبل الوصول إلى دستور دائم وانتخابات، والحكومة التي وُصفت بأنها حكومة الانفتاح تركت كل مراكز السلطة الأساس في أيدي رفاق الشرع في "إمارة إدلب"، وأعطت مناصب صورية لوزراء لا يمثلون بيئاتهم كما هي في الأطراف المهمة لوحدة سوريا.

وفي مقدمته للطبعة الثانية الصادرة عام 1987 لكتاب باتريك سيل "الصراع على سوريا"، يسجل المؤرخ ألبرت حوراني أن "الطرف الضعيف دفع الأقوياء إلى تحقيق مصلحته"، ويقول "إن ضعف الجسم السياسي في سوريا وعدم الاستقرار يغريان القوى بالتدخل، ولكن لا أحد استطاع التحكم في سوريا والهيمنة عليها، لأن من يسيطر على سوريا تصبح له اليد العليا في شرق العالم العربي". أما اليوم، فإن مبدأ "لا حياد" الذي أعلنه الرئيس أيزنهاور واعتبر بموجبه أن سوريا المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي "عدو"، يمكن أن يغري الرئيس دونالد ترمب بالضغط على دمشق للانضمام إلى الصف الغربي. ولا مخرج أمام الرئيس أحمد الشرع من خطر "ضعف الجسم السياسي" في سوريا سوى الرهان على التنوع السوري، والطريق مفتوح.

أندبندنت عربية

يقرأون الآن