هل لا زالت

رغم التحوّل السياسي الجذري الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الأسد وتسلم السلطة من قبل المعارضة التي كانت على قوائم المطلوبين للنظام المخلوع، إلا أن القوانين والأحكام التي شرّعها النظام البائد لا تزل نافذة في مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجهاز القضائي الذي لم يطرأ عليه بعد أي تغيير بنيوي أو إصلاح جوهري.

إذ يطرح هذا الواقع تساؤلات قانونية وأخلاقية منها، هل تبقى القوانين التي وُضعت في ظل نظام فاسد افتقر إلى الشرعية والنزاهة، ملزمة بالتطبيق؟ وهل يمكن أن تُطبَّق هذه القوانين نفسها على ضحايا ذلك النظام، بعد زواله؟

فعلى مدار عقود شُرّعت القوانين في سوريا لخدمة السلطة لا المجتمع، وتم تفريغها من مضامينها الحقوقية لتحويلها إلى أدوات قانونية للقمع والإقصاء وتصفية الخصوم السياسيين، وفي ظل هذا القضاء التابع للأجهزة الأمنية، جرى تجريم آلاف المواطنين استناداً إلى تهم فضفاضة واتهامات غير مثبتة.

ورغم سقوط النظام، لا تزل آلاف القضايا المعلّقة مفتوحة وتُستخدم القوانين ذاتها لملاحقة الأفراد، خاصة المنشقين والمغتربين عن بلدٍ عاش لعقود تحت قبضة قانونية خاضعة للاستبداد، واستمرار تطبيق هذه القوانين من دون مراجعة يجعل من القضاء وسيلة لاستمرار الظلم عوضًا عن أن يكون أداة لتحقيق العدالة.

ثم إن غياب الإصلاح القانوني بعد التحوّل السياسي يعكس هشاشة المرحلة الانتقالية، ويثير قلقاً حقيقياً حول استقلالية القضاء وقدرته على بناء دولة قانون قائمة على مبادئ العدالة والمساواة، فالإبقاء على قوانين النظام السابق من دون مراجعة جذرية لا يهدد فقط ثقة الناس بالمؤسسات، بل يقوّض أيضاً فرص تحقيق العدالة المنشودة، ويفتح الباب أمام إعادة إنتاج القمع تحت غطاء قانوني جديد.

حين تبقى أدوات القمع نافذة في سوريا

لم يكن في نية علي الأحمد الذي غادر سوريا قبل أكثر من عشرة أعوام أن يعود إليها، وكان قد انشق عن قوات النظام في عام 2012، ثم اتجه إلى تركيا حيث أعاد بناء حياته هناك وحصل لاحقًا على الجنسية التركية، وبعد سقوط النظام ومع انفتاح أفق التغيير في بلاده عاد في زيارة لم تتجاوز ستة أيام، وفق ما أوضحه لموقع تلفزيون سوريا.

لم يتوقع علي أن يُستقبل كمتهم لا كمواطن كان له موقف رافض للظلم من نظام مستبد، إذ أبلغه أحد الضباط منذ لحظة وصوله إلى مطار دمشق، بأنه مطلوب لأكثر من 15 جهة أمنية بعضها جنائي، حاول علي تسوية وضعه القانوني، لكنه سرعان ما اصطدم بجهاز قضائي لم يتغير، وإجراءات لا تعترف بزمان أو مكان، حَسَبَ وصفه.

أوكل علي محامية لمتابعة قضيته كون مدة إجازته قصيرة، مبينًا أن شخصاً يُدعى (م.الأحمد)، انتحل هويته خلال فترة غيابه، واستخدم بطاقته مزورة باسمه لتنفيذ عمليات نصب وبيع ممتلكات منها ممتلكات لعائلته، مبينًا أنه تعرض للتهديد من قبل محمود عدة مرات.

وبالرغم من توفر الوثائق التي تثبت وجوده خارج البلاد طوال تلك الفترة، إلا أن المحكمة رفضت الاعتراف بها، وطَلبت حضوره الشخصي للتحقيق، مشككًة باحتمالية دخوله إلى سوريا مسبقًا بطرق أخرى، تَبَعاً لما ذكره علي.

وقال “خرجت من البلاد منشقاً، وعدت زائراً، فوجدت نفسي مجرماً، القوانين ذاتها والعقلية ذاتها حتى بعد سقوط النظام، ما زال عليك أن تثبت أنك بريء من تهم لم ترتكبها”.

غادر علي البلاد مجددًا بعد حصوله على إذن سفر لمرة واحدة فقط، لكنه يعلم أن عودته مجددًا قد تكون محفوفة بالمخاطر ما لم تُطوَ قضيته بشكل نهائي، موضحًا أن ما يؤلمه على حد قوله "ليس الاتهام بل أن يظل القانون في البلد أداة تهديد لا أداة عدالة، حتى بعد التغيير".

وناشد الأحمد الجهات المعنية بالنظر في قضيته والقضايا المتشابهة، قائلًا "لا تكونوا مثلهم لا تكرروا ظلمهم لنا، فجرح المواطنين كبير ويحتاج لعلاج في أن يشفى الوطن من فساد أدوات النظام التي ما زالت في السلطة".

"المطلوبون أصبحوا السلطة في سوريا"

يتشابه رواد في ذات القضية ولكن بتفاصيل مختلفة فعلى الرغم من مرور أكثر من عقد على انشقاقه عن وكالة الأنباء الرسمية السورية “سانا”، لا يزال الصحفي رواد عجمية يواجه تداعيات قراره المهني والأخلاقي الذي اتخذه في بداية الثورة السورية، كونه غادر الوكالة من دون تقديم استقالة رسمية، في ظل بيئة سياسية وأمنية كانت تحظر مثل هذه الخطوة، مما جعل اسمه مسجلاً كموظف “منشق” داخل سجلاتها.

فوجئ عجمية بطلب السلطات منه استصدار “براءة ذمة” من جهة عمله السابقة وتسوية وضعه القانوني، خلال زيارته القصيرة إلى سوريا وهو قادم من النرويج حيث يقيم منذ سنوات، وقال لموقع تلفزيون سوريا “طلبوا مني في المعبر براءة ذمة كأنني متهم، بالرغْم أن معظمهم كانوا مطلوبين سابقاً للنظام المخلوع واليوم أصبحوا هم السلطة!، القوانين يجب أن تُعاد صياغتها لتصبّ في مصلحة من ساهموا في إسقاط النظام لا لمعاقبتهم".

ملفات عالقة بين التغيير السياسي والإداري

مع التغيير السياسي في سوريا، أُثيرت تساؤلات حول مصير المنشقين عن مؤسسات الدولة، خصوصًا من رفضوا الانخراط في أدوات القمع الإعلامي والإداري، ورغم التحول الحاصل لا تزال ملفات قانونية وإدارية سابقة قائمة من دون مراجعة، في ظل غياب آليات واضحة لمعالجة هذه الحالات.

يقرأون الآن