الإعلام يُشنق في ساحة المرشد

فى كل حقبة يتقدم فيها الاستبداد، يكون أول ما يُغتال هو الحقيقة. والحقيقة لا تُغتال بالسلاح، بل تُشنق بحبل الإعلام حين تسيطر عليه سلطة لا تؤمن بالنور. وحين قال جوزيف جوبلز، وزير دعاية هتلر، «أعطنى إعلاماً بلا ضمير أُعطك شعباً بلا وعى»، لم يكن يُنظِّر بقدر ما كان يشرح قواعد اللعبة فى أنظمة الحكم الشمولية؛ ولذلك أراد الإخوان أن يكون الإعلام المصرى جهازاً من أجهزة الجماعة، والمذيع إخوانياً بدرجة «أخ عامل»، والمشاهد مجرد تابع فى معسكر الطاعة.

فمنذ اللحظة الأولى التى صعد فيها محمد مرسى إلى قصر الاتحادية، أدرك الإخوان أن «التمكين» لا يُستكمل إلا بإخضاع الإعلام، ذلك الشبح الذى لا يُستَوزَر ولا يُقال، لكنه قادر على أن يُربك كل حساباتهم. كان الإعلام هو المحارب الأول فى معركة كسب «العقول والقلوب»، وهى المعركة التى خسرها الإخوان فى العاصمة والمدن الكبرى رغم ضعف المعارضة التقليدية.

أيقن الإخوان أن هذا الإعلام هو العائق أمام مشروعهم. فكان لا بد من كسره، أو على الأقل إرهابه. فبدأت المعركة. وكانت البداية جسدية. ففى أحداث المقطم مارس بعض شباب الجماعة نوعاً من «التربية» لصحفيين شباب أتوا لتغطية مظاهرات سلمية أمام مقر مكتب الإرشاد، ولم يَدرِ وقتها هؤلاء الصحفيون الشبان أنهم سيدفعون ثمناً باهظاً لجرأتهم على تسجيل الحقيقة. لكن الجماعة، التى تتقن فن الحساب، اكتشفت أن كلفة هذه المواجهة المباشرة أكبر من المكسب. فالانتقادات انهالت، والاتهامات بقتل الصحفى الحسينى أبوضيف خلال أحداث الاتحادية ما زالت تطاردهم.

وفى المقابل، أطلقت الجماعة أذرعاً أكثر خشونة، لكنها ليست مباشرة، وكان من هذه الأذرع السلفيون من أتباع حازم صلاح أبوإسماعيل. أولئك الذين حاصروا مدينة الإنتاج الإعلامى كأنها قلعة صليبية يجب اقتحامها. وكان المشهد الذى لم تره مصر من قبل يظهر أمامنا بشكل فج، رجال بلحى غاضبة يلوِّحون بالأكفِّ والعصِّى ويمنعون الإعلاميين من دخول الاستوديوهات، لم يكن هذا المشهد مجرد استعراض قوة، بل كان رسالة تهديد معلنة: الإعلام خصم من خصوم الجاهلية يجب إخضاعه أو عزله. ولذلك كانت خطة الإخوان ذات الأولوية تقوم على كتم الصوت الحر تحت شعار «الشرعية».

وقد كان مساءً رطباً فى نهاية مارس، حين تحوَّلت البوابة الرئيسية لمدينة الإنتاج الإعلامى إلى مشهد سريالى من زمن المماليك. رجال ملتحون يهتفون ويضربون الطبول، وبعضهم يلوِّح بالقرآن كمن يلوِّح بسيف، بينما تنبعث من مكبرات صوت محمولة على الأكتاف فتاوى عجيبة، تخلط بين سبِّ الإعلاميين والدعاء عليهم، وكأنَّ اللعن صار عبادة جديدة.

وإذا عدنا بالمشهد إلى هذا اليوم الغريب، ذلك اليوم الذى بدأ فيه الحصار، لوجدنا السيارات وقد اصطفَّت على جانبى الطريق كأنها فى جنازة، وساد الذهول وجوه العاملين بالقنوات الذين لم يتمكنوا من دخول المدينة، أو من مغادرتها. كانت الكاميرات ترتجف فى أيدى المراسلين الشباب الذين حاولوا توثيق المشهد، قبل أن يُطاردهم بعض المعتصمين بهراوات غليظة. وأمام عدسة إحدى القنوات، ظهر شاب سلفى يصرخ فى الميكروفون:

«إحنا هنا علشان نقفل بوق الشيطان، القنوات اللى بتشتم الإسلام، واللى بتشتم الدكتور مرسى، إحنا مش هنمشى!».

ومن داخل المدينة، خرجت أصوات مذيعين غاضبين على الهواء مباشرة، يصفون ما يحدث، ويحذرون مما هو آت. فى تلك اللحظة، لم يكن المشهد مجرد اعتصام، بل إعلان نوايا. أرادوه حصاراً مادياً، فتحوَّل إلى حصار معنوى كشف جوهر الفكرة، وأبان الوجه الحقيقى لمن يرفع شعار الدعوة، ويُخفى خلفه سوط الترهيب.

حينها لم يتدخل الأمن. بل وقف يتفرَّج كما يتفرَّج الحياديون فى الحروب الأهلية، وكأنَّ الأمر لا يعنيه. وفهم الناس الرسالة: أن من يحكم يبارك هذا الحصار، وأن الإعلام، بميكروفونه وكلمته، صار مستهدفاً من دولة تحكمها جماعة لا تطيق النقد، ولا ترى فى الاختلاف إلا مؤامرة.

وهكذا، سقط القناع، ليس بقرار من المعارضة، بل بجهل من «المنتصر». كشف الإخوان أنفسهم عندما استباحوا مدينة الإعلام، ووقفوا على أبوابها يطالبون بالصمت.. فأيقظوا فى الناس الرغبة فى الصراخ، لكن الإعلام المصرى، الذى كان قد تنفَّس الصعداء بعد يناير، لم يكن سهلاً ترويضه. فواجهوا هذا الإرهاب بالسخرية والمقاومة، وظلت الشاشات مشتعلة بالنقد، والتحليل، والتهكم. فعاد الإخوان إلى أسلوب الدولة العميقة: المحاكم والبلاغات.

وقد كان مسار البلاغات طويلاً، فقد استغل الإخوان تعيين طلعت إبراهيم نائباً عاماً، بطريقة أقرب إلى التسلل الدستورى، استغلوا هذا الأمر وهذا النائب فى فتح الباب أمام عشرات البلاغات ضد إعلاميين بتهمة «إهانة الرئيس». لم يكن الهدف سجنهم فقط بقدر ما كان إنهاكهم نفسياً وقانونياً. عشرات الصحفيين دُعوا للنيابة، وواجهوا بلاغات هزيلة لا تستند إلى دليل، ولكنها كانت كافية لإشغالهم عن رسالتهم. ومع ذلك فشل هذا التكتيك أيضاً، لأن النظام لم يكن يملك الجرأة على تنفيذ الأحكام حتى النهاية، خشية رد الفعل الشعبى.

ولم تقف الملاحقات عند هذا الحد، بل بدأ الإخوان حملة تشويه ممنهجة عبر قنواتهم. كانت هناك عشرات القنوات التى توجِّه رسائل مستترة أو مباشرة، تتهم الإعلاميين بالعمالة، أو خدمة رجال الأعمال «الفلول»، أو التحريض على العنف. وتطورت الحملة حتى دخل محمد مرسى نفسه على الخط، ليتحدث علناً عن مانشيتات الصحف، ويتهم إعلاميين بالتحريض، فى خطب تُبث على الهواء وكأنها بلاغات نيابة.

لكن ماكينة الدعاية لم تقتصر على التصريحات والبلاغات، بل امتدت إلى قنوات أنشأها الإخوان خصيصاً، أو احتضنوها ضمن تحالفهم مع التيار السلفى. فظهرت قنوات مثل «مصر 25» الناطقة باسم الجماعة، التى تحوَّلت إلى منبر لتخوين الخصوم وترويج خطابات التحذير من «الدولة العميقة» و«العلمانيين الكفار». وفى المقابل، اشتعلت قنوات التيار السلفى مثل «الحافظ»، و«الرحمة»، و«الناس» فى صورتها المختطفة برسائل مشفرة وأخرى فجة، تُرهب الجمهور من الليبرالية والحداثة، وتبشِّرهم بـ«الخلافة القادمة» على يد «الرئيس المؤمن».

وقد كان الغرض واضحاً: بث الرعب فى نفوس الناس، وتكفير الخصوم ضمنياً أو صراحةً، واختزال كل صوت معارض فى خانة العداء للإسلام. هذا التخويف لم يكن يخاطب العقل، بل يستدعى الغرائز. وقد تخيَّل الإخوان أن هذه الرسائل ستقنع الشارع البسيط، لكنها على العكس، دفعت كثيرين إلى التراجع عنهم، حين رأوا بأعينهم الوجه الحقيقى لجماعة ظنُّوها ذات مرجعية روحية، فإذا بها تتحول إلى ماكينة دعائية متعصبة، لا تتورع عن توظيف الدين فى لعبة السلطة.

لقد كشفت هذه القنوات، دون قصد، عن صورة الجماعة التى حاولوا تلميعها لعقود. كشفوا عن نزعتهم الإقصائية، وانعدام حسِّهم الوطنى، وتناقض خطابهم بين الحديث عن الشورى فى العلن، وممارسة الإقصاء فى السر. وبدا للمواطن العادى أن من يظهر على الشاشة وهو يتوعد الإعلاميين بـ«الحساب فى الدنيا والآخرة» لا يختلف كثيراً عمَّن يهددهم بسوط السلطان.

لكن الأزمة الأعمق لم تكن فى عدد البلاغات، بل فى وهم الجماعة أن بإمكانها ضبط عقارب الساعة على التوقيت الإخوانى.

ولعل التجربة التاريخية تُعيد نفسها. ففى أوروبا الشرقية، ومع سقوط الشيوعية، انفجر «بالون القمع»، وخرجت صحف وبرامج تهاجم الزعيم بالأسماء وتتهكم على السلطة بلغة كانت تُعد كفراً سياسياً.

لكن الإخوان لم يقرأوا هذا التاريخ، أو قرأوه بعين «الحسبة». أرادوا إعلاماً يسبِّح باسم الجماعة، ويتغزل فى قرارات مكتب الإرشاد، وينقل للناس صورة ملوَّنة من «خطة المائة يوم»، حتى لو كان الواقع انهياراً فى المرافق وارتباكاً فى القرار.

وهكذا، وجد الإخوان أنفسهم فى مواجهة مع حزب أقوى من الأحزاب: حزب الإعلام. حزب لا يُخترق بسهولة، ولا يُهدد بالحصار، ولا يُرهب بالبلاغات. بل كلما اشتدت عليه الهجمة، ازداد عناداً وصلابة. والنتيجة؟ أن الجماعة خرجت من الحكم، لكن الإعلام ظل باقياً، يُسجِّل القصة ويُحاكمها أمام الرأى العام. فكما قال نابليون: «أخشى ثلاث صحف أكثر مما أخشى ألف بندقية».

الوطن

يقرأون الآن