تُظهر المؤشرات الميدانية أن نسبة الصواريخ الإيرانية التى نجحت فى الوصول إلى إسرائيل محدودة، مقارنةً بعدد الصواريخ التى أُطلقت فعليًا من داخل إيران. ورغم اتساع نطاق الهجوم، فإن من نتائجه أن تركزت الغالبية العظمى من الأضرار فى مناطق مدنية، فيما بقيت المنشآت العسكرية والاستراتيجية الإسرائيلية الحيوية حتى الآن بمنأى عن الاستهداف المباشر مع بعض الاستثناءات، غير أن ذلك لا ينفى أن إسرائيل وجدت نفسها، وللمرة الأولى، فى مواجهة هجوم صاروخى مباشر بهذا الحجم، ما خلَّفَ أثرًا نفسيًا عميقًا فى المجتمع الإسرائيلى، الذى لم يعتد من قبل هذا المستوى من التهديد، ولا مظاهره المصاحبة من صافرات إنذار متواصلة، وحالة تأهب واسعة، والاحتماء بالملاجئ المحصنة.
وتُعد هذه المواجهة أول حرب تخوضها إسرائيل ضد «دول» منذ حرب عام ١٩٧٣، إذ اقتصرت مواجهاتها خلال العقود الماضية على ميليشيات غير نظامية. كما أنها المرة الأولى التى تشن فيها إيران هجومًا مباشرًا بهذا الحجم على إسرائيل، بعد عقود من الصراع غير المباشر عبر وكلائها فى المنطقة.
ومن بين ما تتسم به هذه الحرب أيضًا أنها تُخاض ضد دولة تفتقر إلى سلاح جو فعّال أو قوة بحرية مؤثرة، وتعتمد بشكل رئيسى على أنظمة دفاع جوى تم تحييد معظم فعالياتها، إضافة إلى صواريخ باليستية لم تُسفر حتى الآن عن إصابات مؤثرة فى الأهداف العسكرية أو الاستراتيجية، فضلًا عن استخدام طائرات مسيّرة يصعب حتى الآن تقييم كفاءتها القتالية بدقة.
يضاف إلى ذلك أن المواجهة بين إسرائيل وإيران تبدو أشبه بحرب علمية واستخباراتية عالية المستوى، تتسم باستخدام تقنيات متقدمة وأساليب نوعية فى الاستهداف. فمنذ عملية «Pagers» واغتيال إسماعيل هنية أثناء وجوده تحت حماية الحرس الثورى الإيرانى، صعّدت إسرائيل من عملياتها الاستخباراتية التى استهدفت شخصيات محورية فى البنية العسكرية والأمنية الإيرانية، بمن فى ذلك قيادات فى الجيش فى الحرس الثورى الإيرانى، وعلماء فى البرنامج النووى، ومسؤولون رفيعو المستوى فى أجهزة الاستخبارات، حيث اتسمت هذه العمليات بدقة بالغة، واعتمدت على وسائل متطورة فى الرصد والتتبع والتصفية، ما يشير بوضوح إلى اختراق عميق للمنظومة الأمنية الإيرانية يعكس حالة من التآكل الداخلى يصعب تجاهلها فى تقييم التوازن الحقيقى بين الطرفين.
وحتى فى ظل ما حققته إسرائيل من دمار فى بعض المنشآت النووية، فإن ذلك لا يعنى بالضرورة خروج البرنامج النووى الإيرانى عن الخدمة بالكامل، لا سيما فى ضوء تقارير استخباراتية تشير إلى احتفاظ إيران بمخزون من اليورانيوم عالى التخصيب فى مواقع محصنة تحت الأرض. ويوفر هذا المخزون القدرة على إنتاج سلاح نووى، ما يعنى أن مجرد تدمير المفاعلات أو أجهزة الطرد المركزى لا يُسقط احتمال امتلاك إيران قنبلة نووية فى المستقبل القريب، حتى وإن كانت ذات قدرة تفجيرية متوسطة.
ومن ناحية أخرى، فإن إيران، حتى وإن نجحت فى إنتاج سلاح نووى، ستظل تواجه مجموعة معقدة من التحديات الجوهرية، على رأسها مسألة امتلاك أنظمة الإيصال Delivery Systems اللازمة لاستخدام هذا السلاح، والتى تشمل قاذفات استراتيجية بعيدة المدى أو صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية. وتشير التقديرات الحالية إلى أن إيران لا تمتلك بعد أيا من هذه القدرات.
فى ظل هذه الظروف، يُفترض بإيران أن تزن خياراتها بدقة، فهى دولة تفتقر إلى حلفاء فعليين على المستوى الإقليمى. فإلى جانب الخلاف التاريخى مع تركيا، لا يمكن القول إن لإيران علاقات سوية مع عدد من الدول العربية المؤثرة، ولا يجب اختزال أسباب ذلك فى مجرد الخلاف بين السنة والشيعة، بل يعود إلى ممارسات النظام الإيرانى الثيوقراطى، وتدخله فى شؤون دول مثل لبنان، العراق، سوريا، اليمن، وفلسطين، فضلًا عن محاولاته إحياء ما يُعرف بـ«مشروع الهلال الشيعى»، وزعزعة الأمن فى عدد من دول الخليج، منها البحرين. وقد أسهم ذلك كله فى جعل إيران دولة شبه معزولة فى محيطها الإقليمى، لذا يُعد منع إيران من التحول إلى قوة نووية قاسمًا مشتركًا فى أهداف إسرائيل، والقوى الغربية، وبعض الأطراف الإقليمية، التى ترى فى ضوء سياسات النظام الإيرانى أن امتلاكه للسلاح النووى لا يُشكل عنصر ردع مشروعا، بل يمثل تهديدًا حقيقيًا يمكن أن يفتح الباب أمام سباق تسلح نووى فى المنطقة.
لذا، فإن إقدام إيران على خطوات غير محسوبة مثل محاولة إغلاق مضيق هرمز أو الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، قد يُشكل مبررًا لتدخل قوى غربية عاتية، وربما بشكل مباشر وبالتنسيق مع إسرائيل، مع ما يحمله ذلك من تداعيات خطيرة على مستقبل النظام الإيرانى، وعلى سلامة دولة تُعد من بين أعرق الحضارات، لكنها وقعت، فى ظروف معقدة، تحت سيطرة نظام أهدر إمكانات ومقدرات شعبٍ يستحق حياة أفضل من ذلك بكثير.
وفى ظل التصعيد غير المسبوق الذى تشهده المنطقة نتيجة الهجمات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وتزايد التحذيرات من اندلاع حرب شاملة، فإنه لم يبق أمام إيران سوى العودة إلى طاولة المفاوضات قبل فوات الأوان، فى محاولة للتوصل إلى حلول، قد لا تُرضى طموحاتها النووية أو الإقليمية، لكنها تَحول دون تواصل تآكل ما تبقى من نفوذها الإقليمى وثقلها الاستراتيجى، فعليها أن تتجنب العناد، وأن تقرأ المشهد الدولى بعناية حتى تخرج ربما بأقل الخسائر.
المصري اليوم