هل يمكن لمصر أن تصبح دولة غنية؟

من الأفكار الشائعة بين الاقتصاديين أن الدول النامية، ومن بينها مصر، تحظى بفرص أفضل لتحقيق معدلات نمو اقتصادى أكثر ارتفاعًا من معدلات النمو فى الدول الغنية، وهذا ما يُشار إليه بـ «التقارب الاقتصادي». هذه الفكرة تستند لأسباب منطقية مدعومة بالأدلة، كما سوف يتضح أدناه. لكن هذا التقارب ليس حتميًا، أيضًا لأسباب منطقية مدعومة بالأدلة، كما سوف يتضح فيما بعد. الأمر المهم بالنسبة للدول الطامحة إلى الاقتراب من مستوى رفاهة الدول الغنية ليس البت فى صحة هاتين المقولتين، بل فى معرفة العوامل الكامنة وراء نجاح بعض الدول فى تكبير حجم الكعكة، ويا حبذا لو صاحب هذا النمو توزيعٌ عادل لعوائد النمو على المواطنين.

أبسط القواعد أقواها

لتوضيح الفكرة، سوف أبدأ بمقارنة معدلات النمو فى الاقتصادات ذات الدخول المنخفضة باقتصادات الدول الغنية ومحاولة تفسيرها، يلى ذلك مقارنة بين معدلات النمو بين الدول النامية، مقرونًا بتفسير لأى تفاوتات، وأخيرًا، وهذا هو بيت القصيد، سوف أختتم المقال بما يعنيه كل ذلك بالنسبة لمصر.

بدءًا بمقارنة معدلات النمو بين الدول النامية والغنية على مدار قرابة عقدين من الزمان (1990 -2008)، تشير الأرقام المأخوذة عن البنك الدولى أن متوسط معدل النمو الاقتصادى فى الدول الغنية، مثل الولايات المتحدة، وألمانيا، واليابان، كان 2.5٪ فقط، بينما كان هذا المعدل فى نفس الفترة فى الدول الأقل دخلًا 4.7٪ وفى الدول متوسطة الدخل 5.4٪. إذا دلّ هذا على شيء، فهو أن الدول النامية فى طريقها للاقتراب من مستوى الدخول فى الدول الغنية، وأنها مسألة وقت وإن طال بعض الشيء. التفسير المتعارف عليه لهذه الظاهرة هو أن اقتصادات الدول الغنية تشبعت برؤوس الأموال والعنصر البشرى، وهذا يعنى أن العائد الحدى من زيادة أيٍّ منهما فى طريقه إلى التناقص. لتقريب الفكرة، قد يكون من المفيد مقاربتها بصعوبة زيادة سرعة العدّاء الذى وصل إلى أرقام عالمية قياسية، مقارنة بعدّاء بدأ عند مستوى منخفض للغاية. التحسّن فى الحالة الأولى يُقاس بالثوانى، وفى الحالة الثانية بالأمتار.

التفسير الثانى لهذه الظاهرة، أن البلدان منخفضة الدخل ليست بحاجة لاختراعات تكنولوجية حديثة، حيث إن هذه التكنولوجيا تم اختراعها ويمكن تطويعها للظروف المحلية، وهو ما يُطلق عليه ميزة أن تأتى متأخرًا. وهناك تفسير ثالث، وهو أن الدول النامية أمامها نماذج ناجحة فى التحول التنموى، ومن الممكن أن تستفيد من هذه التجارب واختيار المسار الخاص بها.

إذا كان الأمر كذلك، فلماذا نلاحظ تفاوتًا هائلًا بين معدلات النمو فى مجموعة الدول النامية؟ على سبيل المثال، لماذا وصل متوسط معدل النمو فى الفترة 1990 و2000 فى الصين إلى 10.3٪، وفى الهند 6.5٪، وفى فيتنام 7.9٪، وفى موزمبيق 6.9٪، بينما كان هذا المتوسط شديد الانخفاض فى دول أخرى، حيث لم يتعدّ 1.2٪ فى جامايكا، و1.2٪ فى غينيا بيساو، وبالسالب (-0.6٪) فى هايتى؟ من الصعب اختزال تجارب هذه الدول فى عجالة؛ فلكل بلد قصته المتفردة فى تشجيع الاستثمار المادى والبشرى، وجهوده المتفاوتة فى الاستفادة من التقدم التكنولوجى، فضلًا عن كفاءة منظومة السياسات الاقتصادية والمؤسسية.

ومع ذلك، ما هو مؤكد أن معدلات النمو المرتفعة لا تتحقق بالتركيز فقط على رأس المال المادى دون البشرى، وأن كليهما لن يحققا النتائج المرجوة دون سياسات رشيدة لتحفيز المنتجين على زيادة الإنتاجية، وتبنى تكنولوجيا حديثة، واستخلاص أكبر عائد ممكن من الموارد المتاحة. صحيح أن هناك من الظروف الخارجية ما قد يكون مناوئًا لطموحات هذه الدول، لكن الحكومات هى التى تتحمل مسؤولية صياغة الاستراتيجيات التنموية، والسياسات التى تتوافق معها، وكفاءة وفعالية التطبيق، فى إطار ما هو مفروض عليها من قيود.

ونأتى أخيرًا للحالة المصرية، وهنا يمكن القول بشكل عام إن معدلات النمو الاقتصادى لدينا غير مبهرة، فقد تراوحت فى العقود الأخيرة بين مستوى متدنٍّ يصل إلى 1.2٪ عام 1990، بعد أن بلغت ذروتها عند 7.2٪ عام 2008. على مدى زمنى أطول، يدور معدّل النمو السنوى فى المتوسط حول نسبة 4٪، وهذا غير كافٍ لتلبية طموحات المصريين واستيعاب القوى العاملة المتزايدة. أما عن كيفية رفع هذا المعدل بشكل ملموس، فهذا أمر يطول شرحه، وقد تعرضت لجوانب كثيرة منه فى مقالات سابقة.

فى هذا المقال، وبناء على ما سبق، يمكن القول إننا بحاجة إلى إيلاء أهمية أكبر لتنمية العنصر البشرى، على الأقل بنفس القدر من الاهتمام الذى نوليهِ لجذب الاستثمارات المادية. ظنى أيضًا أننا بحاجة لتبنى حزمة من السياسات الأكثر رشادة من أجل تنويع الاقتصاد ورفع إنتاجيته. وأخيرًا، وربما هذا هو العنصر الحاكم، من الضرورى العمل على رفع كفاءة ما تم استثماره فى الحَجَر والبشر.

عودةً للسؤال المطروح فى عنوان المقال، الإجابة هى بالتأكيد نعم، مصر يمكنها أن تصبح دولة غنية. مربط الفرس يكمن فى تبنى السياسات والأطر المؤسسية المحابية للنمو الاقتصادى، وهذا طموح ليس بعيد المنال.

المصري اليوم

يقرأون الآن