لم يكن مشروع المفكّر الجزائري محمد أركون عادياً، تختلف معه ربما، لكن لا يمكن إنكار جهده المكثّف، لا في الكتب ولا في الأطروحات فحسب، وإنما حتى في تكوين بيئة نقاش حيوية تراها في محاضراته المتلفزة وسط حضورٍ من مختلف الأجيال والاتجاهات.
قبل أيام من الآن، كتب الأستاذ هاشم صالح، وهو الذي ترجم معظم أعمال أركون من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، مقالةً بعنوان: "ماذا تبقى من مشروع محمد أركون؟". والسؤال فعلياً مناسب، إذ طالما تساءل الباحثون: هل يختفي المشروع الفكري والفلسفي بموت صاحبه؟
وقد جاء رأي هاشم صالح كالتالي: "لطالما طُرِح عليّ هذا السؤال: ماذا تبقى من أركون؟ وفي كل مرة كنت أشعر بالضيق والانزعاج الشديد. في كل مرة كنت أشعر بالحاجة لكي أرد على الفور قائلاً: لقد بقي منه كل شيء تقريباً. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والحداثة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والنزعة الإنسانية في زمن الوحشية والهمجية للفصائل المتطرفة التي شوهت سمعة الإسلام عالمياً ونزعت عن الدين الحنيف كلَّ صبغة إنسانية وكل شفقة أو رحمة. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين الإسلام والأديان الإبراهيمية الأخرى كاليهودية والمسيحية. بقي منه تحقيق المصالحة التاريخية الكبرى بين المذاهب الإسلامية المتصارعة على مدار التاريخ. وكل ذلك حققه على أسس علمية وتاريخية وفلسفية متينة".
وتعليقي هنا هو أن أركون بالفعل لا يزال أثره حاضراً في الحوارات الفكرية ومبحوثاً في الجامعات. الفكرة الأساسية لأركون هي تصويب مسار التأويلات الخاطئة، ولهذا أسس لورشة مفاهيم خاصة به، نجدها في كتبه وبخاصةٍ مؤلَّفه المهم "تاريخية الفكر العربي الإسلامي" الذي أثار الكثير من الجدل في حينه لأنه كتاب اتسم بالموضوعية والشجاعة. ما كان أركون هيّاباً في طرح آرائه بل تعرّض لأعنف حملات التشويه، ومع ذلك لم يستسلم.
لبّ مشروع أركون هو الإنسان، ولذا حين تستمع إليه وهو يردد مقولة أبي حيان التوحيدي: "لقد أشكل الإنسان على الإنسان"، تلاحظ كيف ارتسمت على محيّاه ابتسامةُ إعجاب بهذه المقولة التي تلخّص كل أطروحاته تقريباً، وبالمناسبة فإن أطروحته كانت بعنوان "جيل مسكويه والتوحيدي".
وإذا كانت مهمة الحداثة مناقشة الإنسان بوصفه موضوعاً، فإن منطلقات أركون "ما بعد الحداثية" تضع الإنسان على مشارط النقد والتشريح بوصفه "إشكالية" على النحو الذي بدأتْه فلسفات الاختلاف، والتي درست الجنون والعقاب والسجون ضمن المفاهيم الفلسفية الحديثة.
منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي وأركون يعمل على التأسيس لبناء مشروعه الفكري النقدي الذي قرر أن يفحص من خلاله مشكلةَ الفكر الإسلامي بكل تفريعاته، لهذا كانت أطروحاته تمسّ عصبَ هذا الفكر بغيةَ مساءلته ومناقشته وتشريحه، لا لهدمه، وإنما لإيجاد نقاط تشكّل إمكانات للتجاوز أو القطيعة طبقاً لمخرجات البحث الذي يمارسه.
والخلاصة هي أن مشروع محمد أركون لا يزال حياً وفعّالاً ومستمراً، لا سيما أنه أسس لجيلٍ من الأكاديميين والطلبة وكل هؤلاء المتأثرين به يعتبَرون جزءاً من امتداد مشروع أركون، ولهذا فإنه يظل باقٍ بيننا حتى بعد رحيله.
الاتحاد