أعاد تصريح وزير المال ياسين جابر حول نية الحكومة اللبنانية اللجوء إلى استبدال ودائع المودعين العالقة في المصارف بسندات دين، الجدل إلى الواجهة حول مستقبل أموال اللبنانيين المحتجزة، والآليات المقترحة لمعالجة الأزمة المالية المستمرة منذ العام 2019. ورغم أن الفكرة تُطرح في ظاهرها كخيار تقني، إلا أنها تثير مخاوف عميقة تتجاوز الإطار الاقتصادي إلى أزمة ثقة متجذرة في النظام المصرفي والسياسي على حد سواء.
في هذا السياق، يرى البروفيسور بيار الخوري أن هذا الطرح، وإن جاء بلبوس مالي، إلا أنه يحمل أبعادًا سياسية وقانونية بالغة الحساسية، معتبرا أن فكرة استبدال ودائع المودعين بسندات لا تندرج فقط ضمن إطار الأداة المالية التقنية، بل تتجاوز ذلك لتشكّل محاولة لإدارة أزمة ثقة كبرى في النظام المصرفي اللبناني.
فعلى المستوى العملي، يشير إلى أن هذا الإجراء لا يعيد الأموال إلى أصحابها، بل يغيّر فقط من طبيعتها؛ إذ يتم تحويل الوديعة النقدية، التي يُفترض أن تكون سائلة ومتاحة، إلى ورقة دين مؤجّل، ما يجعل من هذه الخطوة أقرب إلى "معالجة ترقيعية" منها إلى حل جذري للمشكلة.
ويضيف: "المودع الذي كان ينتظر استعادة أمواله يجد نفسه أمام ورقة مالية مرتبطة بآجال طويلة وغير مضمونة بالكامل في قيمتها السوقية"، وهو ما لا يبدد المخاوف الجوهرية ولا يساهم فعليًا في استعادة الثقة بالقطاع المصرفي.
من الناحية القانونية، يشدّد الخوري على أن حقوق المودعين تُعتبر ديونًا واجبة السداد على المصارف. وبالتالي، فإن أي محاولة لتحويل هذه الديون إلى سندات تحتاج إلى أساس قانوني واضح وصارم، يضمن عدم انتهاك مبدأ حماية الملكية الفردية والالتزامات التعاقدية.
ويتابع: "في لبنان، يضع قانون النقد والتسليف، إضافة إلى قوانين الإفلاس والتعثّر المصرفي، أطرًا عامة لهذه التحويلات، لكن الأمر يتطلب قرارًا تشريعيًا أو قضائيًا يحدّد صلاحية هذا الاستبدال ويحمي المودعين من أي انتقاص غير مشروع لحقوقهم". وبدون هذا الغطاء القانوني، يُحتمل أن تتعرض العملية لطعون قضائية واسعة قد تعرقل تنفيذها وتزيد من تعقيد الأزمة.
من المسائل الجوهرية التي يطرحها الخوري هي مسألة "من الجهة التي ستُصدر هذه السندات؟". فإذا كانت المصارف نفسها، فإن الثقة ستكون معدومة نظرًا لوضعها المالي المهتز، أما إذا تولت الدولة الإصدار، "فنكون أمام دين عام جديد يزيد من أعباء المالية العامة ويربط مصير المودعين بمخاطر سيادية".
هنا تبرز الحاجة لضمانة واضحة. يسأل الخوري: "هل هناك صندوق ضمان ودائع مدعوم بتدفقات نقدية قائمة على علاقات السوق؟ هل ستُربط السندات بأصول فعلية أو إيرادات مستقبلية؟". غياب هذه الأجوبة، برأيه، يحوّل السندات إلى مجرد التزام ورقي بلا وزن فعلي.
ويشير الخوري إلى أن ما يجري فعليًا هو نقل عبء الأزمة من المصارف إلى الدولة، من دون معالجة فعلية للخسائر أو تحديد واضح للجهات المسؤولة عنها، وهو ما يعيد فتح ملفات المساءلة وإعادة الهيكلة على أسس عادلة.
أسئلة مركزية تحتاج إلى أجوبة
لعلّ أبرز ما يطرحه الخوري في هذا السياق هو مجموعة من الأسئلة المحورية، التي لا بد من الإجابة عنها قبل طرح أي مسار بديل للودائع:
-ما هو حجم الأموال الممكن ردّها للمودعين وفقًا لقاعدة الأولوية (بحسب حجم الوديعة) أو قاعدة التناسب (pro-rata)؟
-كيف سيتم توزيع كلفة الاسترداد بين الأطراف الثلاثة: المصارف، مصرف لبنان، والدولة؟
-هل ستخضع هذه السندات لفوائد متحركة تحمي قيمتها من التآكل بفعل التضخم، خاصة أنها طويلة الأجل؟
-من يضمن السداد في حال تعثّر آلية الدفع؟ وما هي الأصول الضامنة لذلك؟ هل تشمل أملاكًا عامة؟ أصولًا مصرفية؟ حقوق مجالس الإدارة؟
-ما هي آلية مطالبة المودع بحقه في حال التخلف عن سداد استحقاقات السندات؟
-هل يمكن خصم هذه السندات في الأسواق الدولية؟ وهل سترتبط بتحسّن التصنيف الائتماني للبنان، على الأقل إلى مستوى C؟
الخلاصة: لا "إذعان" للمودعين
يختم الخوري بالتأكيد على أن الدفع بالسندات المؤجلة هو أداة تمويلية مستخدمة عالميًا، إلا أن قبولها لا يجب أن يتم ضمن منطق الإذعان المفروض على المودعين. ولتجاوز هذا المنطق، "يجب أن تكون السندات قابلة للتداول في الأسواق الدولية بصفتها سندات ذات درجة استثمارية، لا سندات "خردة" كاليووروبوندز اللبنانية"، وفق تعبيره.