حينما تضع حرب غزة أوزارها، وحينما تتوقف آلة الانتقام الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة الغربية، وهي ستتوقف حتماً، فلا بد لغبار الحرب أن ينقشع، وحينما يتحقق الفلسطينيون من حجم وفداحة عنتريات "حماس" فوق أشلاء المدنيين، وتخرج استعراضاتهم فوق ركام المدن المدمرة، وتعلن خطابات يحيى السنوار باسم محور المقاومة الإيراني النصر المؤزر، سيقف الفلسطيني المنكوب متفرجاً والألم يعتصره يلملم أشلاء موتاه، ويمد يداً متضرعة للغوث الإنساني، وللقمة تسد رمقه، ولملاذ آمن، حينها لن يبقى حجر فوق حجر في غزة.
وإن كان من قبس في ظلمة هذه الصورة القاتمة، فلا بد من إبراز التطور الكبير الذي يحدث في موضوع حل الدولتين، الذي بات يلقى دعماً دولياً منقطع النظير، ووضوح الرؤية بعد حين، لدى إدارة الرئيس بايدن حول العرض الاستراتيجي الذي تقدمت به القيادة السعودية منذ عام مضى لتسوية أوضاع المنطقة لصالح محور الازدهار على أساس حل العقدة المركزية فيها والمتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وهو مواصلة لعرض تاريخي قدمته السعودية وعرف باسم مبادرة السلام العربية في 2002.
واليوم، تسعى السعودية من خلال قيادتها للجهد العربي والدولي لحشد إجماع لإحقاق حق الفلسطينيين بدولة مستقلة، وبالموازاة تحقيق السلام لكل الأطراف، بما فيها إسرائيل، ونسف دورة العنف والإرهاب وبناء تكامل إقليمي متعدد المنافع.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية تناول كثير من الصحف والمنصات تطورات رؤية الإدارة لليوم التالي للحرب، والتي شهدت تحويرات عديدة تحت تأثير سيولة الوضع في الشرق الأوسط والتهديد غير المسبوق لمكانة أميركا على الصعيد الدولي، وآخرها ما كتبه توماس فريدمان في الـ31 من كانون الثاني/ يناير الماضي في "نيويورك تايمز" بعنوان "عقيدة بايدن للشرق الأوسط تتشكل وهي كبيرة". وفي قراءات متعددة يبحث كتاب الرأي تبني الرئيس بايدن لمقاربة الخطرين الإيراني التدميري من جهة، وخطر اليمين الإسرائيلي المتطرف المرتهن للمستوطنين، من جهة أخرى.
الحاجة إلى "عقيدة" أم للخلاص؟
كثيراً ما تفاخر الرئيس بايدن بعلاقاته المتميزة مع إسرائيل التي فاقت في تقديره أي علاقة جمعت إسرائيل وسياسييها ولوبيها مع قيادات أميركية. وفي تصريح سابق لنائب الرئيس زمن إدارة أوباما، وأمام اجتماع سنوي لـ"لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية"، أكد بايدن فخره بأنه كثيراً ما جمع كثيراً من الأموال لصالح حملاته الانتخابية المختلفة من اللوبي اليهودي أكثر بكثير مما قد يكون لدى بعض مستمعيه. ويبدو واضحاً للمراقبين مدى ارتباط الرئيس بايدن بإسرائيل من خلال أداء الإدارة منذ بدء الحرب على غزة، حتى إن بعض المراقبين لاحظوا أن الرئيس الأميركي غالى في ثقته بمستوى تأثيره في نتنياهو.
في المقابل فإن نتنياهو لم يخف ثقته الزائدة ومقدرته على تطويع الموقف الأميركي. ففي تصريحات سابقة له أمام مجموعة من المستوطنين في الضفة الغربية، أكد أن "أميركا يمكن توجيهها الوجهة الصحيحة، ولن تزعجنا مطلقاً". ومن هذا المنطلق تجاهل نتنياهو منذ اليوم الأول للحرب في غزة النصائح الأميركية حول انتهاكات حقوق الإنسان، وحماية المدنيين في غزة، بل ذهب بالاتجاه المعاكس بالرضا عن تصريحات لوزرائه المتطرفين الذين طالبوا بـ"النكبة الفلسطينية ثانية"، ودفع الفلسطينيين في غزة للهجرة إلى مصر ودول أخرى.
لقد أضرت حرب غزة بصدقية أميركا في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وألقت بظلالها القاتمة على حرب أخرى تدور رحاها في أوكرانيا، أما على المستوى الداخلي فإن موقف الإدارة يضعف بصورة كبيرة موقف الرئيس بايدن للفوز بدورة ثانية في البيت الأبيض في 2024، فقد تدهورت شعبيته بصورة ملحوظة إلى 40 في المئة بآخر استفتاء للرأي أجري في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، حيث لم يوافق 70 في المئة من المشاركين الشباب من دون الـ24 سنة على سياسة البيت الأبيض تجاه الحرب في غزة، لتنهار شعبيته بين هذه الشريحة إلى 31 في المئة، كما أن العرب الأميركيين المشاركين أكدوا أنهم لن يصوتوا لبايدن في انتخابات 2024، وهذا يضاف إلى الأميركيين السود الذين سينحون المنحى نفسه من حيث إن مواقفهم التاريخية كانت لصالح القضية الفلسطينية.
ولدقة الوضع الذي تعيشه الإدارة الحالية على المستويات الداخلية والدولية، وفي إطار محاولة لاستعادة شعبية بايدن المتدهورة مع الدخول في سنة انتخابية حساسة، وتقديمه في صورة الرجل القوي، في مواجهة الحملة الجمهورية التي يقودها ترمب، والتي تركز على ضعف شخصية الرئيس. وفي هذه الأجواء بدأت مصادر مقربة من البيت الأبيض الحديث عن عقيدة بايدن للشرق الأوسط. فهل هي محاولة لقلب المعادلة واستعادة إدارة بايدن لقاعدتها الشعبية في الداخل استعداداً لخوض ما يمكن لها أن تكون واحدة من أشرس المعارك الانتخابية في التاريخ الأميركي. ويبقى السؤال، هل يكفي الوقت لعمل كل ذلك؟
الوقت وفرص "العقيدة"
محاور العقيدة التي عرضها توماس فريدمان الذي أكد أنه في حال التوافق لإنجاح مكوناتها ستشكل أكبر تحرك أميركي من أجل سلام الشرق الأوسط منذ كامب ديفيد في 1979، تتشكل من مثلث تكاملي لا يستقيم أحد أركانه من دون الركنين الآخرين. وهو يتناول إسرائيل والدولة الفلسطينية المستقلة وإيران وعملاءها والسعودية ودورها المحوري.
ويمكن تلخيص محاور العقيدة بتصرف هنا، إذ تتضمن تعهدات أميركية باتخاذ موقف قوي وحازم تجاه إيران، بما في ذلك تصعيد الرد العسكري ضد وكلائها وعملائها في المنطقة. وتقديم مبادرة دبلوماسية غير مسبوقة للترويج لقيام الدولة الفلسطينية، بما في ذلك التحرك نحو صورة من صور الاعتراف الأميركي بدولة فلسطينية منزوعة السلاح في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي لن تظهر إلى الوجود إلا بعد أن يطور الفلسطينيون مجموعة من المؤسسات والقدرات الأمنية المحددة وذات صدقية لضمان أن تكون هذه الدولة قابلة للحياة، وأنها لن تتمكن أبداً من تهديد إسرائيل. وبناء تحالف أمنى موسع مع السعودية قد يشمل أيضاً تسوية العلاقات السعودية مع إسرائيل، شريطة استعداد الحكومة الإسرائيلية لتبني عملية دبلوماسية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح بقيادة سلطة فلسطينية محدثة.
العقيدة تجمع عقداً تراكمية تاريخية، وهي تعتمد في نهاية المطاف على رغبة إسرائيل للخوض في موضوع التشاركية والتنازلات المتبادلة، وتصطدم برفض اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة نتنياهو لوقف الحرب، وتجاهل وجود السلطة الوطنية الفلسطينية كشريك في الأرض والمصير. وتدفع إسرائيل وقيادتها الحالية ثمناً سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً، وتحديداً في ضوء الموقف الدولي المتضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني، والذي تجلى بقرار محكمة العدل الدولية في مواجهة السردية العنصرية لتجريف غزة وتهجير سكانها وإعادة استيطانها.
وفيما حرب إيران عبر عملائها العرب تزداد ضراوة وتهدد بانهيار الاستقرار الإقليمي ورفضها عقيدة بايدن لصالح إنفاذ عقيدتها الخمينية للإزاحة الاستراتيجية لأميركا من المنطقة وفرض هيمنتها الإقليمية، تبدو بعض عناصر عقيدة بايدن جذابة من حيث إنها تستهدف التعامل مع المحور الإيراني المعيق للسلام والازدهار، ولكنها تقف عاجزة عن عقلنة مقاربة اليمين الإسرائيلي المنطلقة من أساطير مسيانية لا وجود لها إلا في مخيلة المستوطنين الإقصائية والعدوانية، فقد بات ملحاً أن ينطق العالم بصوت موحد لكشف زيف وخداع إيران ونتنياهو على حد سواء، فهل سيكون بمقدور بايدن خلال الأشهر القليلة المقبلة إعادة هيبة ومكانة أميركا في الشرق الأوسط والعالم، ولجم عدوانية النظام الإيراني وشبكة عملائه في المنطقة، وتغيير عقلية اليمين الإسرائيلي المتطرف، للفوز بالانتخابات في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
إن المطلب الملح اليوم أمام طاولة الرئيس بايدن في البيت الأبيض هو الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وبهذا يكون قد استعاد مكانة أميركا في المنطقة والعالم، وهو مطلب عربي وعالمي، كما أنه بات مطلباً أميركياً متزايداً لسحب البساط عن المشروع الإيراني الظلامي. إنه سباق الإدارة نحو الانتخابات واستعادة شعبية الرئيس، ورسالة لنتنياهو الذي كثيراً ما راهن على مقدرته على تطويع الموقف الأميركي في سباق مع الوقت حتى يغادر بايدن البيت الأبيض، وينسى الجميع "العقيدة" ويتركها خلف ظهره. حان الوقت لقيام دولة فلسطينية مستقلة وعدم رهن ذلك الموضوع الجوهري بالحملات الإعلامية والدعائية. فالأمر بات مصلحة أميركية، ومصلحة إقليمية، وعربية وإسرائيلية، فهل يفعلها بايدن؟
اندبندنت