على رغم أن توجيه الأصابع باتجاه تل أبيب لدور ما مفترض في أسباب سقوط المروحية التي أقلت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبداللهيان وبعض المسؤولين معهما، فقد يكون لدى بعضهم غير مسوغ لما يقدمه من انتصار مجاني للحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو في هذه المرحلة الدقيقة التي تعيشها حكومته، إلا أن استبعاد هذه الفرضية قد لا ينسجم مع مجموع الفرضيات التي يجري الحديث عنها حول أسباب السقوط، وفي مقدمها الأسباب الجوية، بخاصة أن هذه الحكومة الإسرائيلية، بحاجة إلى حدث مشابه يعيد لها اعتبار الردع الذي تزعزع بعد الهجوم الإيراني الصاروخي والمسير الذي تعرضت له فجر الـ 14 من نيسان/ أبريل الماضي، وأن مجرد الهمس أو الحديث حول مثل هذا الدور، حتى وإن لم يحصل، يلبي جزءاً من الحاجة الإسرائيلية التي يوفرها مثل هذا الاتهام، في مقابل التزامها الصمت أو ترك الباب مفتوحاً أو موارباً أمام هذه الشكوك من دون نفيها أو تأكيدها، كما دأبت على فعله في أحداث سابقة.
والمعطيات التي تدفع لمثل هذا الاتهام ليست قليلة، فلطالما اتهمت إيران جارتها حكومة أذربيجان بتحويل أراضيها إلى مسرح لنفوذ ونشاط لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وأن كثيراً من العلميات الأمنية الإسرائيلية ضد المنشآت النووية الإيرانية قد انطلقت من الأراضي الأذربيجانية، وتحديداً من القاعدة الجوية الأذربيجانية المهجورة التي لا تبعد أكثر من 20 كيلومتراً عن الحدود الإيرانية التي تحولت إلى قاعدة لـ "الموساد"، وبلغت ذروتها في عملية الاستيلاء على الوثائق السرية للبرنامج النووي في منطقة طورقوز آباد وما كشفته هذه الوثائق من أسرار هذا البرنامج، وفضحت دور الجنرال محسن فخري زاده، أبو البرنامج النووي الإيراني، والذي راح لاحقاً ضحية عملية اغتيال في ديسمبر (كانون الأول) عام 2020 اتهمت تل أبيب بالوقوف وراءها.
وفي المقابل فإن اتهام إسرائيل أو أجهزتها الاستخباراتية بالتورط في إسقاط مروحية الرئيس الإيراني لن يصدر عن أية جهة إيرانية رسمية أو عسكرية أو أمنية، حتى وإن توصلت التحقيقات إلى تأكيد هذا الدور، لما لهذا الاتهام من حساسية وآثار سلبية على الصورة الإيرانية من جهة، ولأنه يضع قيادة النظام أمام حتمية الرد من جهة أخرى، بخاصة أن استهداف رأس السلطة التنفيذية ومعه رأس الإدارة الدبلوماسية لا يقل أهمية سيادية عن الاستهداف الذي حصل ضد القسم القنصلي للسفارة الإيرانية في العاصمة السورية مطلع أبريل الماضي، وأدى إلى مقتل عدد من كبار ضباط حرس الثورة العاملين في "قوة القدس" وفي مقدمهم الجنرال محمد رضا زاهدي المسؤول عن عملية التنسيق مع الفصائل الموالية لإيران على الساحتين اللبنانية والفلسطينية وعلى الأراضي السورية.
أما الفرضية الثانية وإمكان وجود قواسم مشتركة بينها وبين الفرضية الأولى المرتبطة بالدور الإسرائيلي تدور حول وجود صراع أجنحة داخل دوائر ومراكز القرار في إيران، بخاصة داخل المؤسسة العسكرية المتمثلة في "حرس الثورة الإسلامية" حول مستقبل السلطة والنظام خلال المرحلة المقبلة، في ظل عدم وجود حدود لطموحات أي من هذه الأطراف لامتلاك مصادر القرار السياسي والإستراتيجي والرسمي ما بعد المرشد الأعلى.
ومما يعزز فرضية صراع الأجنحة ما شهدته الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والتي تحولت إلى ساحة معركة حقيقية بين أبناء التيار المحافظ الذي من المفترض أن يكون معبراً عن رؤية وتوجهات النظام ومنظومة السلطة، ولم يتردد أي من أجنحة التيار المحافظ من استخدام ما لديه من أوراق لإضعاف الجناح أو الطرف الآخر، والسعي إلى إخراجه من معادلة القرار أو في الأقل إضعافه.
وقد أسهمت سياسة التخلص وإقصاء القوى السياسية الإصلاحية والمعتدلة من معادلة الشراكة في ارتفاع وتيرة الصراع وحدته بين أقطاب التيار المحافظ الذين وجدوا أن الفرصة باتت سانحة أمام كل منهم لفرض هيمنته وبسط نفوذه وتوسيعه في مفاصل القرار.
وفي هذه الصراعات أو المحاور لم يقف رئيسي موقفاً محايداً أو موقفاً رعوياً أو أبوياً باعتباره رئيساً للسلطة التنفيذية، بل تحول إلى طرف ولاعب مؤثر في معادلة تركيب البرلمان ورفع حصة طرف على حساب الآخرين، من خلال ترجيح ميزان جماعة "صامدون - بايداريها" الذين دخلوا الانتخابات تحت مسميات مختلفة، في محاولة منه ليكون البرلمان أكثر انسجاماً مع توجهاته والحد من دور البرلمان المعرقل لكثير من السياسات التي يريد تطبيقها.
تحالفات رئيسي في الانتخابات البرلمانية جاءت على حساب ائتلاف قوى الثورة "شانا" الذي يمثل التعبير الأقرب لتوجهات المرشد الأعلى بقيادة رئيس البرلمان الأسبق غلام علي حداد عادل "والد زوجة مجتبى خامنئي"، والذي راهن على نتائج حاسمة لمصلحة هذا الائتلاف ولائحته التي ترأسها محمد باقر قاليباف، إلا أن الأخير أصيب بانتكاسة سياسية داخل التيار المحافظ عندما فشل، وتصدر النتائج محمود نبويان مرشح جناح "صامدون" واحتل هو المركز الرابع.
من جهة أخرى يبدو أن تحالفاً من نوع آخر بدأ بالتبلور بين رئيسي والقائد السابق لحرس الثورة الجنرال محمد عزيز جعفري الذي يتولى حالياً قيادة مقر "بقية الله الثقافي" في الحرس الذي يعتبر الشخصية الأخطر حالياً، وفي المرحلة المقبلة في الإمساك بمستقبل الدولة العميقة، وأن هذه العلاقة قد تكون على حساب الدور المتوازن بين أجنحة الحرس، بخاصة أنها بدأت بالتطور بينهما منذ أيام تولي رئيسي رئاسة السلطة القضائية من خلال قناة كشفها جعفري بعد مقتل رئيسي، والتي تولاها رئيس جهاز أمن الرئيس العقيد محمد مهدي موسوي الذي قتل مع رئيسي، والذي سبق أن كان رئيس جهاز أمن جعفري في قيادة الحرس، وقد تطورت هذه العلاقة بينهما بشكل أثار كثيراً من القلق لدى مراكز القرار داخل الحرس، بخاصة وأن أبعاد هذا التحالف ونتائجه قد تكون لها تداعيات وتأثيرات في مستقبل تركيبة السلطة مستقبلاً.
أما الفرضية الثالثة التي عززتها الرواية الرسمية لأسباب تتعلق بسوء الأحوال الجوية إلا أن الوقائع المرافقة لهذه الفرضية، يعتريها كثير من علامات الاستفهام والتي أثارها معظم الذين تابعوا تفاصيل هذه الحادثة المتعلقة بنوعية الطائرة وعمرها وصلاحيتها لتولي مثل هذه المهمة، فضلاً عن دور الطائرتين المرافقتين وما يمكن أن تلعبانه من دور في تحديد موقع حصول الحادثة، بخاصة أن سقوطها ترافق مع اشتعال النيران جراء الاصطدام، إضافة إلى عدم وجود تواصل بين هذا الموكب الطائر، فضلاً عن عدم صدور نداء استغاثة، ومسرح الحادثة وحجم الحريق الحاصل والتدمير الذي أصاب قمرة الركاب والقيادة لا يشير إلى حصول عملية "هبوط صعب"، بحسب وراية وزير الداخلية أحمد وحيدي، بل يفتح تكهنات على احتمالات أخرى.
ومع أن هذه الفرضيات تبدو ظاهرياً مستقلة بذاتها إلا أن خيطاً رفيعاً يمكن أن يربط بينها ويوصل إلى نتيجة واحدة، وهي خروج رئيسي من المشهد السياسي الإيراني في مرحلة كثيرة الدقة، واستعدادات لمعركة انتخابية متعددة الجبهات، تبدأ بالرئاسية وإمكان التجديد له لدورة ثانية، ولا تنتهي بطموحه بأن يكون حاضراً بشكل فاعل في خيارات البحث عن خلفية للمرشد.
اندبندنت عربية