بعد توقف دام أكثر من سنة ونصف السنة عادت إيران لتطالب باستئناف المفاوضات النووية، إذ منحت ضمناً حكومة مسعود بزشيكان الضوء الأخضر من خلال تصريحات المرشد الإيراني الأخيرة، وعلناً من خلال تصريحات وزير الخارجية عباس عراقجي.
التساؤل هنا، لماذا تدفع إيران الآن في اتجاه عودة المحادثات؟ وما سبب التوقيت وما دلالة ذلك في ضوء ما شهدته المنطقة من تطورات على مدى الشهر الماضي؟.
خلال حديثه مع حكومة بزشكيان الجديدة، فتح خامنئي الباب أمام استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة في شأن البرنامج النووي، قائلاً للحكومة خلال أول اجتماع معها "لا ضرر من التعامل مع العدو، ولكن لا تثقوا به"، فضلاً عن أن بزشكيان أوضح خلال الانتخابات الرئاسية خطط حكومته في مجال السياسة الخارجية وتحدث عن إدارة وخفض التوتر مع الغرب، كما تحدث عباس عراقجي عن نيته استئناف المفاوضات مع واشنطن، مؤكداً أن وزارة الخارجية الإيرانية ستتخذ إجراءات في الفترة الجديدة لإدارة التوترات مع واشنطن وتحسين العلاقات مع الدول الأوروبية، وسيكون هدف الوزارة إحياء الاتفاق النووي لعام 2015 ورفع العقوبات.
وهنا يأتي التساؤل حول دفع إيران فجأة بملف الاتفاق النووي، على رغم توقفه لأسباب عدة كان من بينها اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية، واحتجاجات الحجاب وكلها أمور دفعت واشنطن والدول الأوروبية إلى فرض مزيد من العقوبات.
ومع ذلك استمرت طهران في تزويد روسيا بالمسيّرات في حرب أوكرانيا، ولم تتراجع في أي من الملفات الخلافية مع واشنطن والغرب أو مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، حتى إن واشنطن أعلنت حينها أن محادثات إحياء الاتفاق النووي ليست على الأجندة الآن.
إذاً لماذا تتحرك بثقة نحو استئناف المفاوضات، ولماذا في هذا التوقيت الذي تشهد فيه المنطقة حرب غزة الممتدة لأكثر من 10 أشهر، وتوترات البحر الأحمر والمواجهة العسكرية التي جرت بين إيران وإسرائيل خلال أبريل (نيسان) الماضي ثم اغتيال إسماعيل هنية، وتهديد طهران بالانتقام له من إسرائيل لانتهاكها سيادتها باغتيال ضيف على أراضيها.
ولمعرفة سبب التوجه الإيراني التفاوضي هذا، لا بد من العلم أن إيران لديها قدرة على الاستفادة من الأزمات التي تواجهها في خلق فرصة تستغلها لمصلحتها.
بينما أشعلت ما يسمى "محور المقاومة" وتحدثت عن نيتها الرد بقوة على اغتيال هنية سواء منفردة أو بالتنسيق مع الميليشيات التابعة لها، نجد أنها تخلت عن الرد الانتقامي على إسرائيل بمبررات عدة من بينها أن طول انتظار إسرائيل ردّها أصعب نفسياً من قوة الرد، وتحججت أيضاً بمفاوضات وقف إطلاق النار في غزة ثم تحدثت عن أنها لا تريد أن تُجرّ إلى مخطط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ولم تفوت كذلك فرصة الاستفادة من زخم الدبلوماسية الإقليمية والدولية التي كانت تخشى اندلاع حرب إقليمية في المنطقة.
حقيقة الأمر أن إيران كانت تخشى من رد واشنطن، خصوصاً أن القدرات العسكرية الأميركية الموجودة في المنطقة أكثر من أبريل الماضي، وخشيت كذلك رد نتنياهو، فضلاً عن أنها لن تخاطر ضد إسرائيل من أجل إسماعيل هنية، ومنذ أيام قليلة غرد خامنئي على موقع "إكس"، متحدثاً عن استمرار المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية.
ما بعد الاتفاق النووي الإيراني
في إطار ما سبق من اغتيال هنية لن يكون سبباً لتحرك إيران ضد إسرائيل وتوجيه رد انتقامي لانتهاك سيادتها، لجأت طهران إلى ما سبق من مبررات لتبرر تخليها عن الضربة، لكن في المقابل أرادت أن تحصل على ثمن التخلي عن الضربة الانتقامية التي روجت المرشد وجميع قادة الحرس الثوري.
إيران تدرك أن تخليها عن الضربة كان لمصلحة حسابات إدارة بايدن والديمقراطيين الذين لم يرغبوا في اندلاع حرب في المنطقة والانتخابات الأميركية على وشك البدء، بالتالي ستكون الظروف مواتية لدونالد ترمب.
ولأن طهران أيضاً لا تريد مجيء ترمب وتفضل التعامل مع إدارة ديمقراطية، فقد أعطت واشنطن ما تريد، وفي المقابل تريد الآن ثمن التخلي عن الضربة الانتقامية ضد إسرائيل، تريد استئناف المفاوضات التي تستهدف منها أساساً رفع العقوبات.
قدمت إيران استعراضاً آخر للقوة أرادت أن تؤشر به إلى أنها مفتاح حل أزمات المنطقة ومن ذلك إعلانها عن موافقة الحوثيين على هدنة موقتة لإتاحة وصول قاطرات وسفن إنقاذ إلى المنطقة لإنقاذ ناقلة النفط التي أشعلها الحوثيون في البحر الأحمر.
هنا تريد إيران تأكيد ما هو مؤكد وهو تأثيرها في الحوثيين وأن توترات البحر الأحمر لا تصب إلا في مصلحتها، إذ إنها توسطت وأعلنت الهدنة.
تنتظر إيران عودة المفاوضات ورفع العقوبات، والسبب الرئيس الذي يجعل الملف النووي أولوية لديها الآن هو قرب يوم إنهاء العمل بأحكام القرار 2231 (2015)، فبعد انقضاء 10 أعوام على يوم اعتماد الخطة وشرط عدم استئناف العمل بأحكام قرارات مجلس الأمن السابقة التي كانت مفروضة على طهران وتم رفعها بموجب الاتفاق النووي، ينتهي العمل بجميع أحكام القرار ويكف مجلس الأمن حينئذ عن النظر في المسألة النووية الإيرانية.
ولكن في ظل وجود "آلية الزناد" أو "سناباك" التي تنص على أن "مجلس الأمن، في غضون 30 يوماً من تلقي إخطار من دولة مشاركة في خطة العمل تبلغ فيه بمسألة ترى أنها تشكل إخلالا كبيراً بالالتزامات المنصوص عليها في خطة العمل"، سيصوت على مشروع قرار في شأن استمرار سريان إنهاء الأحكام المنصوص عليها المبينة في قرارات مجلس الأمن السابقة.
وينص القرار 2231 (2015) كذلك على أنه إذا لم يتخذ مجلس الأمن قراراً يقضي باستمرار سريان إنهاء الأحكام المنصوص عليها في القرارات السابقة، فإنه اعتباراً من منتصف الليل بتوقيت غرينيتش عقب اليوم الـ30 من تاريخ إخطار مجلس الأمن، يسري مفعول جميع أحكام القرارات 1696 (2006) و1737 (2006) و1747 (2007) و1803 (2008) و1835 (2008) و1929 (2010) و2224 (2015) التي أنهي العمل بها وتطبق بالطريقة نفسها التي كانت تطبق بها قبل اتخاذ القرار 2231 (2015).
وبعبارة أبسط أي عودة جميع العقوبات الأممية التي كانت مفروضة على إيران ورفعت بموجب الاتفاق النووي. في إطار ما سبق، تخشى إيران مع اقتراب موعد إنهاء العمل بأحكام القرار 2231 لعام 2025 المقبل، ربما تقوم أي من الدول الأوروبية أو واشنطن بتقديم شكوى إلى مجلس الأمن بإخلال إيران بالتزاماتها، مما يُعدّ واقعاً فعلياً في إطار تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تؤكد ضبابية وغموض النشاط النووي الإيراني، فضلاً عن تزايد تخصيب اليورانيوم في الأشهر الـ10 الأخيرة خلال حرب غزة، حتى إن الترويكا الأوروبية أصدرت في يوليو (تموز) الماضي بياناً ضد إيران ونددت بأنها تتحرك في الاتجاه الخاطئ من خلال الاستمرار بتكثيف أنشطتها النووية بما يتجاوز حدود الاتفاق النووي، وأن التطورات النووية الإيرانية، وبعضها لا رجعة فيه، ستبطل خطة العمل الشاملة المشتركة وتزيد من صعوبة العودة للحل التفاوضي.
ربما يفسر هذا أيضاً سياسة عراقجي الهادفة إلى تحسين العلاقات مع الدول الأوروبية، مما أكده مراراً وخلال اتصاله بجوزيب بوريل.
إجمالاً تسعى إيران إلى جني ثمن اغتيال إسماعيل هنية وعدم توريط إدارة بايدن في حرب إقليمية من خلال رفع العقوبات عنها وتجنب إحالة الملف النووي إلى مجلس الأمن قبل 2025 المقبل.
اندبندنت عربية