ترامب والأيديولوجية التقنية الجديدة

كثيراً ما يعتقد أن قاعدة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تتشكل أساساً من المجتمع المحافظ والنزعة القومية المسيحية، في حين يهمل دور الوسائط الإلكترونية الكبرى التي انحازت رموزُها الكبرى، مثل إيلون ماسك، لمرشح الحزب الجمهوري الفائز. وفي هذا السياق كتبت "فلانتين فور" في صحيفة "لوموند" الفرنسية (15 نوفمبر) دراسة مطولة عن ما سمته "اليمين التكنو أميركي" الذي أخذ السلطة في الولايات المتحدة.

في هذه الدراسة تتحدث "فور" عن أثرياء سيلكون فالاي الذين دعموا بقوة ترامب في الاستحقاقات الأخيرة، لا من منظور نفعي برغماتي محض، وإنما انطلاقاً من نزعة أيديولوجية جديدة تجمع بين الطوبائيات الليبرتالينية والقيم المحافظة. لقد كان جل رجال أعمال التقنيات الجديدة من أنصار الحزب الديمقراطي، لكنهم على غرار ماسك انتقلوا بحماسة إلى الصف الآخر، واعتمدوا خطاب ترامب المناوئ للهجرة الخارجية والأفكار الهوياتية التفكيكية. "فور" تستشهد هنا بالمؤرخة ميا كاندل التي ترى أن "اليمين التكنولوجي" أصبح في الولايات المتحدة مركز السلطة، وغدا له تأثير قوي في بلاد يشكل فيها المال عصب الحرب الانتخابية. صحيح أن جل رجال أعمال التقنيات الجديدة، مثل بيل غيت (مؤسس "ميكروسفت") ولورين جوبس (أرملة مخترع "آبل")، دعموا المرشحة "الديمقراطية" كاملا هاريس، لكن القلة التي وقفت مع ترامب كان لها نفاذ مباشر إلى المجال العمومي الاتصالي، وقد تمكنت بالفعل من إعادة تشكيله وضبطه وفق أهداف جديدة ملتزمة بالقضايا التي يتبناها اليمين الأميركي المحافظ.

لقد كان عالم التقنيات الجديدة بعيداً عن السياسة، وكان همه بناء مجال مفتوح من دون حدود ولا قواعد، يكون بديلاً عن عجز الساسة وفشل الدول، وفق رؤية ليبرتالية مناوئة لتدخل السلطات العمومية في الفضاء الاتصالي الذي كان يؤمل أن يقضي على التصدعات الأيديولوجية والسياسية، ويكرس أفقاً جديداً من الحرية والرفاهية. لقد كان هذا المنحى متناغماً مع الأفكار التقدمية اليسارية المدافعة عن "العولمة السعيدة". بيد أن طبيعة الثورة التقنية الجديدة تغيرت من خلال ظواهر غير مسبوقة مثل التشاركية في النقل والسكن وانبثاق مواقع التواصل الاجتماعي وما يرتبط بها من مخاطر الجريمة السبرنتيقية والتزوير الإلكتروني.

وهكذا غدا الاتجاه الليبرالي التقدمي ميالاً إلى ضبط ورقابة التقنيات الاتصالية الجديدة، خصوصاً بعد جائحة كورونا وتنامي دور الذكاء الاصطناعي في المعارف والممارسات الجماعية. ومن هنا ندرك كيف تحول قطاع التقنيات الجديدة من اليسار التقدمي إلى اليمين المحافظ، احتجاجاً على سياسات الرئيس بايدن وإدارته في الرقابة على الوسائط التكنولوجية في جوانبها الإعلامية والمالية (العملات الرقمية). وبالنسبة لرموز سيلكون فالاي، يجب أن يتطور التقدم التكنولوجي دون قيود مهما كانت آثاره السلبية على المجتمع، ومن هنا الحملة على الدولة المركزية وتدخلها "غير المشروع" في البحث العلمي والإبداع التقني.

لقد بدأت تبرز شيئاً فشيئاً أيديولوجية اليمين التقني الجديد من خلال مدونات وكتب ومواد مسموعة ومرئية تدافع عن قيم السلطة القوية والتحكم القهري والتفاوت الاجتماعي الاستحقاقي، وترى أن المال يجب أن يصرف في تطوير التقنيات المتجددة لا في التمييز الإيجابي أو الحد من الفوارق الطبقية.

وفق هذه الرؤية التي نلمسها بقوة لدى "بيتر ثيال"، مؤسس شبكة "باي بول" المتخصصة في الدفع الإلكتروني (في كتابيه أسطورة التنوع، والتربية على الليبرتالية)، لا يمكن الرهان على السياسة الانتخابية من أجل إصلاح المجتمع، لأن الشعب ليس جديراً بالثقة في القرارات الكبرى.

البديل الذي يقترح ثيال هو تكثيف الحرية الفردية في مجالات حيوية لا يمكن للسياسة أن تكون فاعلة فيها، مثل الشبكات الإلكترونية والفضاء والمحيطات، وتمديد أساليب التسيير التقني إلى المجال السياسي نفسه. ومن المعروف أن نائب الرئيس الجديد، جي دي فانس، قريب من هذا التيار وله علاقة وثيقة بثيال. وحسب تقرير لصحيفة "دي زايت" الألمانية (13 نوفمبر)، نجح فانس في تحوير الخطاب السياسي للحزب الجمهوري بنقله من النضال من أجل حرية التجارة والتبادل العالمي غير المقيد، إلى حرية الإبداع التكنولوجي ولجم تدخل الدولة في القطاعات الإنتاجية الحيوية وإنهاء دورها الاجتماعي الذي كان متمحوراً حول سياسات التمييز الإيجابي والعدالة التعويضية.

ما نخلص إليه، هو أننا نلمس مع الصفحة الجديدة من الترامبية بروزَ مقاربة أيديولوجية لدى النخبة التقنية تجمع بين مطالب الإبداع العلمي والتقني غير المقيد والقيم القومية المحافظة التي تعني في العمق رفض المنطق التنويري الملتزم للسياسة، أي الرهان عليها في توجيه المجتمع وصياغة أفكاره، وتقليصها في هدف حماية النسيج الوطني وصيانته من الشوائب الخارجية والمثل التغييرية الراديكالية.

يقرأون الآن