يُعرف جيمي كارتر، الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة، بإرثه المعقد في السياسة الخارجية خصوصا في الشرق الأوسط، مع تأثيره الكبير على القضايا العربية.
ولك أن تتخيل، أنه في عهده القصير الذي لم يتجاوز ٤ أعوام، سقط نظام الشاه في إيران وغزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان ووقعت مصر وإسرائيل اتفاقية سلام هي الأولى من نوعها وهي أحداث شكلت الشرق الأوسط ومازالت تبعاتها الكبيرة متواصلة حتى اليوم.
ورغم ذلك يعتبر كارتر واحد من المناصرين العرب والداعمين لقضية فلسطين قلبا وقالبا حتى أنه ألف كتابا في عام 2006 حمل عنوان فلسطين يحذر فيه من جدار الفصل العنصري وهو ما أثار حفيظة الكثيرين من المؤيدين لاسرائيل. وامتنعت معظم الصحف الاسرائيلية اليوم عن الإشادة به حتى أن صحيفة جوراليزسم بوست حاولت تأبينه وتعرضت لهجوم كبير.
على أي حال هذا لن يغير من إرث كارتر، حيث ارتبطت إدارته، التي استمرت من عام 1977 إلى عام 1981، بشكل خاص بإتفاقيات كامب ديفيد، التي توسط فيها في عام 1978، مما أدى إلى توقيع معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل في عام 1979. وكان هذا حدثًا بارزًا في الدبلوماسية في الشرق الأوسط، حيث مثل أول اتفاقية سلام بين دولة عربية وإسرائيل. وكانت هذه أهم مساهمة لكارتر في القضايا العربية بلا شك حيث جنب المنطقة حروبا وأنهارا من الدماء. وكانت هذه الاتفاقيات حاسمة جدا في إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل، والتي استمرت منذ إنشاء إسرائيل في عام 1948. ومع ذلك، تركت هذه العملية القضية الفلسطينية معلقة دون حل، حيث زعم العديد من المنتقدين أنها أدت إلى تهميش الملف الفلسطيني.
وكانت السياسة الخارجية لكارتر في البداية تدور حول حقوق الإنسان وتعزيز الديمقراطيات ولم تخرج عن الإطار العام للحزب الديمقراطي مما أثر على نهجه تجاه العديد من القضايا في الشرق الأوسط.
وسعى كارتر جاهدا إلى تحقيق التوازن بين تعزيز حقوق الإنسان والاستراتيجيات الجيوسياسية، مما أدى في بعض الأحيان إلى انتقادات من الجانبين العربي والإسرائيلي بسبب التناقضات الملحوظة.
وخفضت إدارته المساعدات العسكرية لبعض الأنظمة في أمريكا اللاتينية لكنها استمرت في دعم دول أخرى في الشرق الأوسط، مثل السعودية ومصر، بسبب المصالح الاستراتيجية لأمريكا.
وبعد ترك منصبه، حيث حكم لفترة واحدة فقط واصل كارتر الانخراط في الشؤون السياسية في الشرق الأوسط، ليصبح أحد الرؤساء الأمريكيين السابقين القلائل الذين تحدثوا بصراحة عن حقوق الفلسطينيين.
وأثار كتابه الذي حمل عنوان "فلسطين: السلام وليس الفصل العنصري" الذي نشر في عام 2006 جدلاً كبيراً بسبب مقارنته بين سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة والفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وقد أكد هذا الكتاب على التزامه بتقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة، على الرغم من ردود الفعل القوية على الكتاب، حيث اتهمه البعض بالتحيز لكن أشاد آخرون بشجاعته في معالجة هذه القضايا بكل صراحة.
ويتناول كتاب الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، مع التركيز على سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلة. ويعتقد كارتر أن استمرار سيطرة إسرائيل وبناء المستوطنات يشكلان عقبات أساسية أمام التوصل إلى اتفاق سلام شامل في الشرق الأوسط.
وأثار عنوان الكتاب ومحتواه جدلاً كبيراً جدا، وخاصة بسبب استخدام كارتر لمصطلح "الفصل العنصري" لوصف الوضع في الأراضي الفلسطينية. وزعم الناقمون وهم من الجانب الاسرائيلي ومؤيديهم في أمريكا أن هذه المقارنة كانت مثيرة للجدال وغير صحيحة من الناحية الواقعية.
وكان هدف كارتر من كتابة الكتاب إثارة النقاش ولفت الانتباه إلى تعقيدات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بهدف تشجيع الحوار نحو حل سلمي.
وفي سنواته الأخيرة، اتخذ كارتر خطوة غير عادية بين قادة الولايات المتحدة السابقين من خلال التعامل مباشرة مع حماس، التي أدرجتها الولايات المتحدة وعدة دول أخرى كمنظمة إرهابية. وكانت حواراته تهدف إلى تعزيز مفاوضات السلام وقد اعتبرها البعض جهودًا لإشراك جميع الأطراف في محادثات السلام، على الرغم من أن هذا قوبل بانتقادات حادة واتهامات لإضفاء الشرعية على منظمة يراها الجانب الاسرائيلي بانها معادية للسلام.
وكان كارتر صريحًا في انتقاد سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وخاصة فيما يتعلق بمعاملة إسرائيل للفلسطينيين. ودعا الولايات المتحدة إلى اتباع نهج أكثر توازناً في التوسط من أجل السلام، ودعم حل الدولتين، وانتقاد التوسع الاستيطاني باعتباره عقبات أمام السلام.
وفي اعتقادي لا يوجد رئيس أمريكي مثل كارتر رغب في حل القضية الفلسطينية ووجه انتقاداًت واضحة جدا لإسرائيل في هذا الجانب.
ولم يشغل جيمي كارتر منصب الرئيس سوى لفترة واحدة بسبب عدة عوامل رئيسية، فخلال فترة رئاسة كارتر، واجهت الولايات المتحدة قضايا اقتصادية حادة بما في ذلك ارتفاع التضخم حيث بلغ ذروته عند أكثر من 13٪ وارتفاع معدلات البطالة، وأزمة الطاقة في أعقاب حظر النفط عام 1973. هذه المشاكل الاقتصادية، ألحقت ضررًا كبيرًا بالثقة العامة في سياسات كارتر الاقتصادية. وكان سقوط الشاه في إيران وأزمة الرهائن في واحدة من أكثر الأحداث ضررًا لرئاسة كارتر، والتي بدأت في نوفمبر 1979 عندما استولى الطلاب الإيرانيون على السفارة الأمريكية في طهران، واحتجزوا 52 دبلوماسيًا أمريكيًا كرهائن لمدة 444 يومًا. وسيطرت الأزمة على عناوين الأخبار، وصورت كارتر على أنه ضعيف في السياسة الخارجية، وانتهت بمحاولة إنقاذ فاشلة، مما أدى إلى تشويه صورته بشكل أكبر.
وعلى الرغم من النجاحات مثل اتفاقيات كامب ديفيد، إلا أن سياسة كارتر الخارجية لم تكن متسقة وخاصة في التعامل مع الأزمات في إيران والغزو السوفييتي لأفغانستان. وهناك من يرى أن تركيزه على قضايا حقوق الإنسان كان ساذجًا وأدى إلى توترات مع حلفاء أمريكا مثل شاه إيران ما أدى إلى سقوطه واندلاع أزمة الرهائن وتولي المتشددين الإسلاميين السلطة في طهران وهو ما تدفع ثمنه واشنطن والمنطقة حتى اليوم.
وشهد الحزب الديمقراطي انقسامًا داخليًا في تلك الفترة حيث شعر الكثيرون أن كارتر كان معتدلاً للغاية أو غير عدواني بما يكفي. وكان هذا الانقسام واضحًا عندما تحدى السناتور تيد كينيدي كارتر في الانتخابات التمهيدية لعام 1980. وفي انتخابات عام 1980، قدم رونالد ريجان تناقضًا واضحا مع كارتر، ووعد بالتعافي الاقتصادي، والاستجابة العسكرية القوية للتهديدات الدولية، ونهج أكثر صراحة للحكم. واستحوذت رؤية ريغان المتفائلة وكاريزمته على خيال الناخبين، مما أدى به إلى فوز ساحق ضد كارتر.
وعلى الرغم من ذلك، فقد حظي عمل كارتر بعد الرئاسة بالاحترام على نطاق واسع، مما عزز بشكل كبير إرثه بمرور الوقت ووصفته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية بأنه الرئيس الأكثر تأثيرا بعد خروجه من منصبه.
وتوفي الرئيس الأسبق جيمي كارتر، الرئيس التاسع والثلاثون للولايات المتحدة، عن عمر يناهز 100 عام في 29 ديسمبر 2024 في مسقط رأسه في بلينز بولاية جورجيا وسيذكره التاريخ بأنه واحد من أكبر المناصرين للقضية الفلسطينية والرجل الذي تسبب في إعادة تشكيل الشرق الأوسط.