مآزق الشعبوية والطاقات الأيديولوجية

من عِبر التاريخ ودروسه أن طغيان التكتّل الجماهيري على الأنماط العقلانية والصيغ المؤسسية يتضمّن بالضرورة إيقاظ النزعات الشريرة، وانبعاث الأحقاد العنصرية أو الدينية أو المذهبية، وبالتالي ضمور الدولة، وانحلال المؤسسات أو بعضها.

وما قصدتُ بالتاريخ حديثه فقط، وإنما قديمه أيضاً. لقد لفت انتباهنا خلال العقدين الماضيين هشاشة مؤسسية غير عادية في الدول التي اضطربت وأخذتها الرياح نحو مسارٍ عنيف على المستويات كافة.

والطاقة الكارثية التي تسببها هذه الحركات ليست حكراً على الدول المتقهقرة، بل حتى في أغنى دولة بالعالم مثل أميركا تابعنا الأحداث المتمردة مؤخراً، وقد كتب عنها «روس دوثات» مقالةً مهمة في «نيويورك تايمز» بعنوان: «الطاقة الآيديولوجية الكامنة وراء الاحتجاجات في أميركا»، وفيها يقارن بين الاحتجاجات عبر تاريخ أميركا من نيكسون وإلى ترامب ومد حضور الدور الأيديولوجي.

التحليل الثاني المهم للدكتور محمد الرميحي، حيث بحث عن «إغراء الشعبوية». بيت القصيد قوله إن:«هناك سردية جديدة في عالمنا العربي يمثلها «النموذج الخليجي»، هي ليست آيديولوجيا، ولكنها إنْ صحَّ التعبير «ديفيولوجيا» أي طريق تنموي لإنعاش المجتمعات واستدامة التنمية، سماتها التحول من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد متنوع، في قلبه اقتصاد الخدمات، وإقامة بنية تحتية متينة في الاتصالات والمواصلات والموانئ، والاستثمار في الطاقة المتجددة، والتقنية الحديثة، وخلق بيئة أعمال جاذبة، وصناديق سيادية ضخمة، والاستثمار في الإنسان، واللحاق بموكب العلم الحديث».

تعليقي أن هذا القول صحيح، وآية ذلك أن المجتمعات لم تغيّرها الأفكار، بل غيّرتها سياسات التنمية. ماكس فيبر يعتبر التغيير الاقتصادي أساس كل تغيير ثقافي. لايمكن للفوضى أو المنطق الشعبوي، أو الطاقة الأيديولوجية أن تحلّ محل المؤسسة. ثمة بوْنٌ شاسع بين الدول التي تقودها الأيديولوجيا، والأخرى التي ترسم مساراتٍ تنموية ضمن قيمٍ وثقافةٍ وعاداتٍ أصيلة.

من مهمة المثقفين تبيان موضوعات الشعبوية وإغراءاتها، فهي سبب رئيس في تعطيل التنمية لدى العديد من الدول العربية. شعوب تستحق أن تعيش بأمانٍ، وأن تتعلم وتتطبب وتستمتع بالرفاهية القصوى. الآن ومع كل هذا الخراب والحرائق في بعض الدول العربية والإسلامية، يأتي نموذج دول الخليج فهو من أنجح النماذج، كونه استطاع أن ينجح في الجمع بين التحديث العالي والتمسك بالقيم المفيدة من التراث. معادلة جدّ بسيطة، ولكنها تحتاج إلى الاقتداء والامتثال، لايمكن للخطاب الشعبوي أن يكون بديلاً عن مؤسسةٍ من مؤسسات الدولة، فضلاً عن أن يكون بديلاً عن الدولة.

الخلاصة؛ إن الرؤى التنموية، والسياسات الحيويّة هي القادرة على صوغ أفكار المستقبل، فالاحتجاجات أو الخطابات الشعبوية رأينا أثرها في المحيط لاتزال تلك الدول تتجرّع مرارات الشعبوية وتندم على مافقدتْه من آمال.إن التعويل على الحراك أو الضجيج هو ذهاب نحو الجحيم، فالاستقرار والتنمية وتمتين المؤسسات هو أساس النجاة من كل خطر.

الإتحاد

يقرأون الآن