"من دولة إلى دولة"… بهذه العبارة أراد الرئيس السوري أحمد الشرع أن يختصر رؤية جديدة للعلاقات اللبنانية – السورية. رؤية تتجاوز إرث الوصاية والتدخلات السابقة، وتضع العلاقة على أساس السيادة، الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة.
هذا الخطاب لم يكن مجرد كلمات بل محاولة واضحة لتفكيك سنوات من الفوضى، وتأسيس مرحلة سياسية جديدة بعد عقود من التوترات والتدخلات.
في لقاء قبل أيّامٍ مع وفد إعلامي عربي، شدّد الشرع على ضرورة فتح صفحة جديدة مع لبنان
ودعا إلى تجاوز مآسي الماضي وإرساء علاقات تقوم على الاستقرار والتكامل الاقتصادي.
قد كان لموقفه بشأن “عدم وجود سلاح خارج سلطة الدولة” دلالة واضحة على الرغبة في فصل العلاقة السياسية عن أي نفوذ "ميليشياوي"، كما أشار تنازله عن "الجراح التي سببها حزب الله في سوريا" إلى تفضيل الشّرع تسوية سياسية – أمنية لمُعالجة الملفّات العالقة مع لبنان.
المعتقلون السّوريّون.. آلية جديدة للحلّ؟
أحد أبرز هذه الملفّات هو ملفّ الموقوفين السوريين في السجون اللبنانية. يقول مصدر أمنيّ لـ"وردنا" إنّ عدد الموقوفين السّوريين في السّجون اللبنانيّة يبلغ 1329 موقوفاً، بينهم 389 محكومون، 87 بتهمة القتل، 82 بالإرهاب، 79 بالسرقة، و181 بتهم متنوعة،.
كل ملفّ لهؤلاء الموقوفين يُشكّل تحدياً أمام الدّولة اللبنانيّة. إذ يتطلب كُلّ ملفّ دراسة دقيقة من وزارة العدل لضمان مُراعاة القانون اللبنانيّ بالإضافة إلى الخلفيات السياسية والأمنية للموقوفين الذين شارك بعضهم في فصائل مسلحة مصنفة إرهابية في لبنان والخارج، أو كانوا معارضين للنظام السابق.
الاتفاقية القضائية الموقعة بين لبنان وسوريا عام 1951 تنظم نقل الأشخاص المحكوم عليهم بعقوبات سالبة للحرية، لكنها لا تشمل المتهمين بالإرهاب أو الملاحقين جزائياً، ما يضاعف التعقيدات القانونية للملف. ويجعل أي خطوة خارج الإطار القضائي اللبناني محفوفة بالمخاطر ومخالفة للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
ما وجهة النّظر القانونيّة؟
يرى النائب ملحم خلف في حديثٍ لـ "وردنا" أن ّمعالجة الملف تتطلب تمييزاً واضحاً بين المحاكمات الجارية والأحكام المبرمة. ويؤكّد أن أي محاكمة ينبغي أن تتم عبرَ القضاء اللبناني، مع الإسراع في تنفيذ المُحاكمات بعد إقرار التشكيلات القضائية الأخيرة.
يضيف خلف أن الأحكام المبرمة يمكن التعامل معها عبر اتفاقيات تعاون قضائي مع سوريا. بينما أيّ مشروع قانون عفو عام يتطلّب مُراعاة الأبعاد التشريعية والقانونية، مع تبرير سبب العفو بشكل واضح، وعدم تطبيقه انتقائياً.
في المقابل، يشير المحامي جاد طعمة لـ "وردنا" إلى الضغوط السياسية والأمنية الداخلية والدولية التي تحيط بالملف، مؤكداً أنّ نقص التحقيقات والأدلة يبقي العديد من الموقوفين في خانة الحبس الاحتياطي، خصوصاً مع بعض الملفات التي لا تزال محل جدل قانوني بسبب خلفيات المتهمين السياسية أو ضعف الأدلة.
يضيف طعمة أن التعامل مع ملفات الإرهاب أمام المحكمة العسكرية يتم بسرية مُطلقة، مع ضرورة إثبات صلة الفعل بجماعة إرهابية ووجود القصد الجرمي. بينما تتكون الأدلة من اعترافات، شهادات، تقارير أمنية، مراقبة الاتصالات وأحياناً خبرة تقنية على وسائل التواصل الاجتماعي.
يظل التحدي الأكبر التمييز بين من ارتكب أعمال عنف حقيقية ومن وُجهت إليه التهم لأسباب سياسية أو ارتباطات عائلية، وهو ما يمكن الطعن فيه أمام القضاء.
من الناحية القانونية يؤكد طعمة استحالة تسليم الموقوفين السوريين إلى دمشق حالياً، نظراً لغياب الضمانات القضائية ومبدأ "عدم الإعادة" الذي يكفل حماية حقوق الإنسان. كما لا توجد معاهدة تسليم مجرمين بين لبنان وسوريا تلزم السلطات بذلك.
الحل القانوني المقبول هو محاكمتهم في لبنان عن الجرائم التي ارتكبوها على الأراضي اللبنانية، أو الإفراج عمّن لا تتوافر أدلّة كافية لإدانتهم، ضمن إطار قانوني واضح يحمي حقوق الإنسان ويعكس الالتزام الدولي للبنان.
الشّرع وإرادة العلاقة الجديدة مع لبنان.. الرّياض على الخطّ
على المستوى السياسي، تؤكد شخصيات لبنانية زارت الشرع غير مرّة في الأشهر الماضيّة أنّ الرّئيس السّوريّ يُركز على بناءِ علاقةٍ مؤسساتية مع لبنان. وذلكَ بعيداً عن الحسابات السّياسيّة اللبنانيّة الضّيقة. وبعيداً عن الانخراط في زواريب السّياسية اللبنانيّة، ما يشير إلى جديته في إعادة ضبط العلاقة اللبنانية – السورية.
كما يبرز دور المملكة العربية السعودية في تعزيز العلاقات بين بيروت ودمشق. وذلكَ من خلال التواصل الثّنائي الدّائم بين المبعوث الأميركي إلى سوريا توماس برّاك والمستشار في وزارة الخارجيّة السّعوديّة الأمير يزيد بن فرحان. بالإضافة إلى تواصلهما مع المسؤولين اللبنانيين والسّوريين.
تمثل الزيارة الرسمية المرتقبة للوفد السوري إلى لبنان اختباراً عملياً لقدرة الطرفين على الانتقال من خطاب سياسي رمزي إلى تفاهمات مؤسساتية ملموسة.
إذ يضمّ الوفدُ السّوريّ ممثلين عن وزارات الداخلية والدفاع والخارجية والعدل وجهاز الاستخبارات العامّة. ومن المُقرّر أن يجتمع الوفدُ مع لجنة وزارية – قضائيّة - أمنيّة لبنانية برئاسة نائب رئيس الحكومة طارق متري.
تشمل الملفات المطروحة ملفّ الموقوفين السوريين، ودراسة آلية تسليم الموقوفين لمحاكمتهم في دمشق وفق اتفاقية محتملة. كذلكَ ملفّ المطلوبين الفارين إلى سوريا، واستجرار الكهرباء من الأردن عبر الأراضي السّوريّة. ناهيكَ عن ضبط الحدود ومنع التهريب.
إنّ معالجة هذا الملف، سواء عبر اتفاقيات قضائية أو أي مشروع عفو محتمل، لن تكون مجرد مسألة قانونية أو إنسانية، بل مؤشر حقيقي على نضج العلاقة بين لبنان وسوريا. وتُعزّز قدرة الجانبيْن على تجاوز فوضى الماضي وبناء علاقة مستقرة تحمي مصالح البلدين، وتعيد الثقة في المؤسسات.
هكذا يمكن اعتبار خطاب الشّرع وخطوات دمشق الأخيرة بداية مرحلة جديدة لإعادة ضبط العلاقات، حيث تتقاطع الاعتبارات السياسية والقانونية والأمنية والدبلوماسية في اختبار حقيقي لتحويل التصريحات إلى واقع عملي.
ويبقى ملف الموقوفين السوريين حجر الزاوية في هذا الاختبار، فهو يعكس القدرة على التعامل مع الملفات الحساسة بطريقة عادلة وقانونية، بعيداً عن الحسابات السياسية أو الطائفية. ما يُؤكّد دخول العلاقة اللبنانيّة – السّوريّة إلى عهدٍ جديدٍ يختلفُ عن سنوات وسنوات من التعقيد السّياسي – الجغرافيّ – الاجتماعيّ.