من المقاومة إلى المساومة

حين تتحوّل المقاومة من وعد بالتحرير إلى خطاب يضجّ بالإنكار، ومن مشروع وطني إلى وظيفة إقليمية، تصبح الكلمات أقنعة، ويتحوّل الخطاب إلى أداء لا يحاكي الواقع، بل يُزيّفه. وفي خطابه الأخير، لم يتحدث نعيم قاسم كقيادي في حزب قدّم الشهداء وواجه إسرائيل، بل كمندوب دائم لنظام إقليمي يتفاوض على حساب وطن صغير، مدمّر، منهوب، ومسلوب السيادة. كلمات لا تُقنع، وعبارات لا تُرهب، وسلاح لم يعد يزرع الخوف في نفوس الأعداء، بل في قلوب الناس. السلاح المكشوف لم يعد “المقدّس”، بل صار المفضوح، بعدما تحوّل من رافعة تحرير إلى أداة مساومة.

منذ بدايات الثمانينات، كانت وجهة حزب الله واضحة: لا تحرير بلا نفوذ، لا مقاومة بلا ولاء خارجي، ولا مجتمع بلا وصاية حزبية. لم يكن المشروع بناء الدولة، بل الهيمنة عليها؛ لم تكن الغاية حماية الأرض، بل تحويلها إلى ورقة تفاوض باسم طهران. كان لبنان ساحة، والمجتمع بيئة، والدولة غنيمة يجري اختراقها من البوابة المذهبية وصولاً إلى التحكم بمفاصلها، لا بقوتها، بل بضعفها. واليوم، حين يتحدث قاسم، لا يتحدّث عن جوع الناس أو انهيار العملة أو تفكك الدولة، بل عن “انتصار” أبدي، كأنّ الوقت توقّف في لحظة “نصر إلهي” لم تحمِ الجنوب من الفقر، ولم تحمِ المقاومة من أن يبهت بريقها، ولم تحمِ الوطن من الانهيار.

الثبات العقائدي الذي يتحدث عنه قاسم ليس إلا صدى لما يُكتب في طهران ويُراجَع في فيينا. لبنان تحوّل إلى بند تفاوض، والسلاح المقاوم صار سلعة تُسعَّر لتحسين شروط الصفقة. لم تعد المقاومة قرارًا ذاتيًا ولا فعلًا سياديًا، بل تحوّلت إلى وكالة تُدار من خارج الحدود. وما يُطرَح باسم الكرامة لم يعد يملك معنًى إلا في سوق التفاهمات الدولية، تحت تهديدات إسرائيلية ترعاها واشنطن بصمت مدروس. لم تعد المقاومة تقاتل على الجبهات، بل تتحرك أو تصمت بحسب المفاوضات والمصالح. لقد صار الحزب طرفًا في خارطة الردع المتبادل لا في مشروع تحريري، صدى لتفاهم لا قضية.

في هذا السياق، لا تُفهم حماية الحزب للنظام السوري إلا بوصفها استكمالًا لوظيفة التحالف. لم يكتفِ الحزب بالتدخل العسكري، بل فتح أبواب التهريب، وشوّه الاقتصاد اللبناني باسم “الصمود”، وصمت حين فرضت دمشق ضرائب عبور، ومنعت مرور الشاحنات اللبنانية. لم يُدافع لا عن الدولة ولا عن البيئة. الولاء كان دومًا للمحور، لا للناس. وخلف كل “تفهّم”، خضوع، وخلف كل “تكتيك”، مقايضة على حساب السيادة.

وفي بيروت، حين صوّت الحزب للمناصفة في انتخابات البلدية، لم يفعلها عن قناعة ميثاقية، بل لتثبيت موقعه في نظام المحاصصة. لم يكن انخراطه لحماية شراكة وطنية، بل لحجز موقع في صلب منظومة يتظاهر بمواجهتها. رسالته واضحة: نحن لسنا خارج النظام، بل من أركانه. والمفارقة أن البعض من خصومه – ممن يسمّون أنفسهم “سياديين” – اغتبطوا لدخول الحزب في المعادلة، معتبرين ذلك “تقدّمًا” في منطق اللعبة السياسية، كأنّ خضوع السلاح لمنطق المناصفة يُعفيه من المحاسبة، أو يشرّع بقاءه خارج الدولة.

وهنا لا بد من وقفة صارمة: إنّ إعلان النصر ببندقية لا تملكها، لا يختلف كثيرًا عن إعلان التحرير بسلاح بات عبئًا. كلا الخطابين، السيادي والممانع، يروّجان للوهم ذاته بلغة مختلفة. كلاهما يعيش على “نصر” يملكه الآخر، ويتنصّل من مسؤوليته عن الخراب. أما الحماية الحقيقية فلا تأتي من حزب مسلّح، ولا من دبلوماسية صورية، بل من الدولة وحدها، ومن مجتمع يستعيد وعيه ويكسر صمته.

“من يقاتل الوحوش عليه أن ينتبه ألا يتحوّل هو نفسه إلى وحش” – نيتشه

ورقة السلاح انكشفت، ولم تعد تصلح لا للردع ولا للشرعية. تحوّلت إلى عبء على حاملها قبل خصومه، من مصدر فخر إلى مصدر عزلة. صار الشعب يخشاه بدل أن يحتمي به، ويرى فيه قيدًا بدل أن يراه حريّة. لم يعد الناس يسألون: كيف نحمي هذا السلاح؟ بل: كيف نحتمي منه؟ هناك سؤال واحد يطل برأسه: إلى متى؟ فالسلاح بلا محاسبة لا يشكّل قوة، بل مهانة. بلا استراتيجية وطنية، يصير بندقية يتيمة فوق خراب وطن.

خطاب الحزب المموّه لا يخلو من دهاء، فهو يتكئ على ذاكرة انتقائية، وعلى لغة تُخادع أكثر مما تُقنع. كثيرون صدّقوه في السابق، من مؤيدي فلسطين، إلى أعداء أميركا، إلى فصائل يسارية حلمت بثورة على النظام العالمي. لكن هؤلاء أنفسهم باتوا اليوم شهودًا على الانهيار، يشفقون على الحزب وقد تحوّل من رمز إلى وظيفة، من مقاومة إلى أداء تفاوضي. المفارقة الصادمة أن من أسقط هالة السلاح، ليس خصومه، بل هو نفسه، حين قبل أن يكون بيدقًا في طاولة تفاوض لا تملك بيروت فيها سوى الصمت.

أما الداخل اللبناني، فلم يكن بمنأى عن ارتكابات الحزب. من اغتيالات إلى قمع إلى ترهيب، كانت المواجهة داخلية بقدر ما كانت خارجية. ومع ذلك، غفر له كثيرون، بحسن نية أو ضعف أمل. اعتقدوا أن “المقاومة” فوق الشبهات. لكن الوعي اليوم يقتضي شيئًا آخر: لا وطن يُبنى على ذاكرة مَمسوحة، ولا دولة تقوم بسلاح خارج القانون. من والى المقاومة دون منفعة شخصية لا يُلام، أما من ارتزق من خطابها، وغطّى على حماقاتها فموضعه ليس في السجال، بل في المحاسبة.

ومن هنا نفهم إصرار الحزب على إعادة نجيب ميقاتي إلى السراي، ليس كحالة إنقاذ، بل كضمان لاستمرار المسرحية. ميقاتي هو عنوان الحكومة التي تُرضي الخارج وتُحيّد الداخل، تفتح الملفات دون أن تحسمها، وتُدير الانهيار بدل معالجته. وهكذا، تتجدّد لعبة “الفراغ المنظّم”، تحت لافتة الاستقرار، وتُجهض كل لحظة مواجهة فعلية مع واقع مأزوم.

ووسط هذا الانهيار، يطلّ السياديون بخطاب انتصاري لا يقل وهمًا عن خطاب الممانعة. يراهنون على تغيّر الخارج، على العقوبات، على النفوذ الأميركي، ويحسبون أن هذا كافٍ لإسقاط السلاح. لكنهم نسوا أن بندقية الآخرين ليست مشروعهم، وأن الانتصار لا يُستعار. فكما فشلت المقاومة حين صارت مشروعًا خارجيًا، يفشل السياديون حين يختبئون خلف قوة لا يملكونها. كلا الطرفين يهرب من مواجهة الحقيقة: لا مقاومة تُبنى خارج الدولة، ولا سيادة تستعاد دون مساءلة.

الحزب قاتل إسرائيل، نعم. لكنه دمّر الدولة. قدّم الشهداء، نعم. لكنه روّج للفساد. صرخ باسم الفقراء، لكنه صمت عن سرقة المصارف. رفع لواء المقاومة، لكنه تحوّل إلى شريك في محاصصة السلطة. استخدم لغة التحرير ليحمي بها حصّته، وسلاحه ليحصّن موقعه. وها هو اليوم يخاطب الناس كأنهم لا يعرفون. لكنه مخطئ. الناس باتوا يعرفون.

السؤال الآن ليس عن حزب الله وحده، بل عن المنظومة كلها، وعن كل من تواطأ، وسكت، وتعامى. والجواب لا يأتي من العجز، بل من لحظة وعي ضرورية، من صدمة أخلاقية تدفع الناس لكسر هذا الجمود. لم يعد يكفي أن نشجب السلاح، أو نناشد الدولة. لا بد من مشروع وطني جامع يعيد تعريف المقاومة، لا كمفهوم عسكري، بل كخيار سياسي وأخلاقي. ولا بد من الاعتراف أن ما يُسمّى مقاومة، إن ظلّ خارج المساءلة، يجرّ البلاد إلى وهم الانتصار المتكرّر على أنقاض الحقيقة.

ما تبقى لنا، هو هذا السؤال: من أنتم وإلى أين تأخذون البلاد؟ وهل ما زالت المقاومة مقاومة، أم مجرّد اسم حركي لصفقات لا يُعلن عنها؟ الدولة تبدأ من هنا: من مساءلة السلاح، من تفكيك الخطاب، من كسر هذا الازدواج، ومن الاعتراف أن لا كرامة تحت بندقية لا تُناقَش، ولا سيادة تُستعاض عنها بالتكاذب الوطني.

جريدة الحرة

يقرأون الآن